Atwasat

وفي رواية أخرى

أحمد الفيتوري الثلاثاء 12 مارس 2024, 04:10 مساء
أحمد الفيتوري

طالعت مخطوط أحمد الفيتوري، ما احتوى روايته، سردية ضياعي! تحت عنوان «فتاة فرنسية في الصحراء الليبية» وملحق «سيرة كاتب الرواية»، فوجدته أنه يمثل الرواية الناقصة، أعرف أني كفرنسية ابنة الرواية، ولذا قرأت منذ نعومة أظافري الروايات الكبرى، فعرفت أن لكل راوٍ رواية، وأن كل رواية ناقصة دائمًا، لأن النسق الروائي هو النسق الحياتي، ما ليس له تمام حتى بفعل عزرائيل!. ليس لي في نظرية الرواية ولا في نقدها، لكن أتصور أننا جميعًا مشروع روائي، فالسردية الأكسجين الذي يعجن أجسادنا، ومن ثمة معنى وجودنا، السردية أي الإخبار نفي العدم وأن أنا الآخر.

وفي «فتاة فرنسية في الصحراء الليبية»، أراد الكاتب سرد سيرة ضياعي في الصحاري الكبرى، جاعلًا مني شاهد حياة، وقد حشا المتن بكتابتي الصحفية، عما جرى أثناء الربيع العربي في صورته الليبية، ما لم تنل اهتمامًا كما يجب، حيث اختزل الربيع العربي فيما جرى في تونس ومصر، كالعادة الاستسهال قرين الشغل الصحفي وما يحذو حذوه.

لست على بينة بالكتابة الروائية إلا باعتباري قارئة، كذا لست على بينة بالربيع العربي إلا باعتباري صحفية، تمرست في خضمه وفي التجربة الليبية منه. لن أزعم كتابة سردية ما، ولا أهتم بالسرديات الكبرى، فالصحفي مؤرخ اللحظة حسب ظن الروائي المفكر ألبير كامو، بعض الظن إثم، لكن هذا الإثم أحلّ لي مسألة معرفة ما لم أكن أعرف، حيث صيرني ربيع ليبيا صحفية، كما لم يصيرني سرد الفيتوري روائية، لكن الأهم أنني عشت كما لم أعش، بفضل ما في ظن أهلي وأهل البلاد، حيث قيل إنني ضائعة في صحرائها الكبرى.

غادرت مدينة سبها واثقة الخطى، مجرورة من أنفي بسوط عقلانية العارف كل شيء، هذه اللاعقلانية جدل العقل المغمورة في ثقافتي اليقينية هي واعزي الخفي، ما دفعني إلى المغامرة، في فجر يوم صحراوي صافٍ كسراب مخادع شحن غروري، حتى التهمت الرمال سيارة الجيب، ذات الدفع الرباعي المختالة بقوتها، ما أعجز وبين وهنها كثبان رمل متراصة، كجيوش لا يأخذها سهو ولا سنة من نوم، وصلابتها في نعومتها.

وما جاء فيما كتبته بعد ذلك في تقرير صحفي، بالنص ما ضفره الروائي في متنه: شاهدت قافلة ثم أمواجًا تتلاطم فمراكب سابحة، ثم ثعلبًا جفل مني بدا لي أسد الصحراء، ما انقرض منذ اجتاح أجدادنا الشمال الأفريقي. لكن رعبًا شلّ قواي، عندما تذكرت كلام رفيقي ليلة البارحة: «إن الصحراء ليست جدبًا ينقطع عنه البشر، بل إنها كالبحار طريق صعب يجذب الأقوياء، وأكثرهم من المجانين، شذاذ الآفاق وهم من المتمردين». إذاً الصحراء مأهولة بكل مقتدر وعندئذ كنت غير المقتدر. قطع تداعياتي أصوات سيارات الدفع الرباعي ما لم أرَ، فكثبان الرمال سجني ما يحميني حتى الساعة عن الأنظار، رصاص يلعلع في سماء رعبي، كل الاحتمالات السيئة سبتني، حتى شعرت بماء ينساب بين فخذي، ما تحسستهما بيدي فلم أمس غير عرق الخوف، خجلت من رفيقي من أكثر ما تغزل في جمالي القوي. رعشة قوية انسابت من قلبي لكل جسدي فاستعدت شجاعتي، نهضت فشاهدت عقربًا أسود وكنت أعرف أنه القاتل لا محالة، وعن بعد مني شجيرة بدأت كنخلة اكتسحها الرمل، لكنها تشب غزالة تفتك نفسها من قبضة صياد، ثم تراءى لي سرب من النساء يقطعن مواشير الشمس اللافحة، قلت لنفسي كليوباترا سباها الرومان، فكوني كليوباترا وليسبِك من يكون.

محاصرة في إمبراطورية الرمال تحت وابل من الرصاص، قطعان من سيارات عسكرية عند الأفق تطاردها أخرى، ثم بعض منها هاربة نحوي وأخرى تطلق نيرانها من رشاش/ أغراض عامة، تبينت رتلًا من سيارات تايوتا ذات دفع الرباعي، ما حولها ثوار ليبيا إلى مدرعة يحمل صندوقها مضادًا للطائرات حيث لا طائرات، كلما جاءني الأمان واجتاحتني السكينة حين أشاهد سيارات رفاقي الثوار، بددته مدرعة روسية على متنها جنود النظام وضباطه، كلما اشتد القتال انتابني وجع، أن رصاصًا خرم جسدي حتى جعله غربال خوف، فاختلط عرق الخوف بجفاف الريق وغبار العراك وعجاج الكثبان، التي تدسني في حضنها عن الآخرين، تمترست حيث لا أين حيث لا أنا. بعض فوارغ مختلفة من طلقات طائشة حطت عند وكري كطيور ميتة، اليقين الوحيد ما خبلني وضمني إليه أني قتيلة تهوري وصبابة المغامرة.

هل تم إنقاذي من رفاق أم أمسك بي خصم في ظنه أني حليفة أعدائه؟، في المعركة ليس ثمة رفيق غير أن تنجو بنفسك، فالكل أعداء، ولعلهم لهذا استنبطوا مصطلح نيران صديقة. في حالي لم يكن ثمة صديق غير كثبان دفنتني عني وعنهم، موت محقق لا سبيل للخلاص منه إلا بالاستسلام له، جف ريقي وكل شيء فيَّ، باستثناء عرق الخوف ما رطب جسدي، ما في أمواجه غرقت، وجدفت به للخلاص من وهن جسدي وطراوته، طراوة الجبن «البقرة الضاحكة» الفرنسي، في مخيالي أن الصحراء أنثى لعوب فجعلتها قرينة ضد الحرب الأنثى الضروس.