Atwasat

من القرية إلى الصين

سالم الكبتي الأربعاء 06 مارس 2024, 07:10 مساء
سالم الكبتي

(دعني يا مفتاح.. أبكيك)

هناك شرق بنغازي عند ضفاف شط البحر ومن بعيد إلى يمين الطريق المقابل تلال الجبل تبدو ظاهرة في كل وقت. المنطقة تلوذ خائفة من هول الحرب. سكان المدينة رمتهم الأقدار إليها ونزحوا وظلوا في انتظار توقفها. تلك اللعينة.. إنها الحرب تفعل فعلها المشين والقاتل إلى حد يفوق التصور. هناك حيث قرية سيدي خليفة، ولد مفتاح ماضي.. واحد من جيل نشأ في تلك الأيام والظروف ووعى حقائق عديدة مع مرورها، في مقدمتها التطلع نحو الشمس والكفر بالظلام أينما حل وفي كل أشكاله. وبعد ثماني سنوات أعلنت البلاد استقلالها، لكنها ظلت في قوقعة مغلقة من الجوع والحاجة والفقر والمرض. ومع ذلك أخذ الجيل الذي أعقب جيل الثلاثينيات يدب فوق الأرض دون عكاز يتوكأ عليه. ليس ثمة معين سوى دعوات العجائز عند تنفس الصبح.

عانت الأسرة مثل كل العوائل. تنقلت في الربيع والصيف إلى أماكن مجاورة في الأطراف الجنوبية من القرية. الحصاد والبهجة وطلوع الشمس والنهارات المشرقة ومرأى الأعشاب والزهور.. والقعمول على امتداد العين!

كانت الأجواء تغمرها الألفة على الدوام. تواجه التعب والمعاناة وتتطلع إلى الشمس.. إلى فجر جديد. ثم الخطوة الأولى باتجاه المعرفة والتعلم. رحيل صغير من القرية إلى الأبيار. مدينة خلف التلال المقابلة.. لكنها بعيدة. مدينة بها مدرسة وحياة ومحطة قطارات تربطها ببنغازي والمرج. كان صفيرها يحمل معاني الفراق والحزن معظم الأحيان. مدينة وشبه قرية. بيوت وحركة. المدرسة هناك جمعت جيلا من كل المناطق. جيل أتى من إجدابيا وبنغازي وقمينس والمرج.. وغيرها. وجلس على المقاعد المتهالكة ينصت إلى الرواد من المعلمين. بدل أنيقة وطرابيش أو شناني. حزم ورعاية واهتمام. رواد ليبيون تولوا أولئك الصغار بالعناية. والدروس كانت تقود في النهاية إلى الوعي والوطنية والتطلع إلى الشمس. لا يوجد مكان للظلام قط.

ثم حقائق أخرى ومفاهيم جديدة تشكل فيها الوعي بصورة أقوى. كان لدى الجيل في الواقع رغم البؤس والشقاء شوق للحرف والعلم وكانت الخطوات تكبر من الجيل السابق لتوطين هذا المبدأ وهو التعليم والقضاء على الجهل بإمكانيات ضئيلة تعتمد في جلها على المساعدات والهبات. رائحة البترول لم تشمها الأنوف بعد. لم يغط عين الشمس شيء يعكر إشراقتها كل يوم. الحلم لدى الجيل ينمو ويعظم مع الشمس ويرنو إلى الضياء.

خطوات أخرى. أعوام البدايات الأولى للدولة التي تحبو. والجيل الذي يدب بلا عكاز في الدروب. تغيرات الخمسينيات في الجوار.. في العالم، يبرز وعي جديد لدى مفتاح ماضي الذي صار شابا وجيله الذي ظل يكبر مع الشمس ويحلم بلا انقطاع.

بنغازي وليبيا كلها يغشاها المعلمون من مصر وفلسطين والأردن ومع وجودهم ينمو شيء آخر من المعرفة والوعي بالهموم الكبيرة التي تتجاوز القرية والمدينة والوطن. إنها نكبة فلسطين والأمة ومستقبلها والتيارات الفكرية ومحاولات النهوض والرفض والتمرد على الساكن الذي لابد له أن يتحرك. المعهد الصحي الذي أنشأته وزارة الصحة في بنغازي عند سورها الشرقي القديم كان هدفه تخريج الضباط والمفتشين الصحيين. هكذا كان اسمه. وخطوة أخرى يلتقي فيها مفتاح ماضي بكثيرين من ليبيا. لكن الأقرب منهم يظل زميله مصطفى العالم. وفي أعوام تالية سيصبح أكثر قربا من الناحية الفكرية ويصير عديله أيضا.

في 1959 يمتد الأثر القومي ويقوى طلبة ليبيون يعودون من القاهرة ومن بيروت يمتلئون إحساسا بدور الأمة وشعورا بقضاياها الملحة. أغلبهم كان يرى في هذا النشاط حماس أيام العمر الذي لا يمكن كبحه. وكان يراه عملا ليس بالضرورة أن يكون خيانة أو تآمرا على الوطن. كان مفتاح هنا من هؤلاء في هذا المفهوم وقد شارف العام السابع عشر من أوائل المؤسسين دون ضجيج. ازداد الوعي، ولكن دون تعصب أو إقصاء أو إبعاد لأحد. كان صديقا للجميع. وحين سافر إلى فرنسا لمواصلة الدراسة الجامعية عام 1961 ترك التنظيم (القوميين العرب). كانت التجربة قصيرة، لكن المصادر والدراسات حول هذا الموضوع لابد أن تذكره وتمر باسمه. كان يعرف الكثير وفي صدره اختزل العديد من الأسرار، لكنه لم ينشرها. وفي باريس علاقاته امتدت مع زملائه الليبيين والعرب. كان هناك محمد عبدالكريم الوافي ولم يفترقا إلا بالموت. عاشور قرقوم. ساسي الحاج. رمضان جربوع. وحيد بوقعيقيص. فهمي جدعان الذي تحدث عنه في سيرته (طائر التم) وكثيرون. وفي باريس خاض غمار تجربة النشاط الطلابي الليبي وتلازم مع نشاط الطلاب العرب. نشاطان قويان يكملان عنده بعضهما البعض. وله في ذلك مواقف كثيرة. تواضع في ذكرها على الدوام إلا في نطاق ضيق. ظلت حبيسة الصدر. لم يفخر بسيرته أو يراهن عليها أو يبالغ في حكاياتها. كان بسيطا زاهدا زهد المتصوفة والمناضلين أصحاب النفوس العفيفة. لكن القلب ظل يملؤه الحزن والانكسار فيما يجري هنا في الوطن أو هناك على مستوى الأمة خارجه. لم يدع مفتاح النضال أو يلون نفسه أو يلعب على الحبال. وفي تجربته الدبلوماسية في فرنسا وغينيا والصين عند سورها العظيم كان يتمثل القرية عند شاطيء البحر ومواقع النخيل وصفاء القلوب.. والتواضع الذي يلازمه مع كثير من الود والالتزام بقيم التسامح مع الآخرين. كان يقول لي في بساطة الصاحب وروعته: (إن الناشط لا ينشط وحده في فراغ وإنما مع أشخاص لا غنى لأي توسع في السرد عن ذكرهم وذكر أدوارهم وأكره ما أكره أن أجد نفسي في هذه السن مضطرا إلى الرد على هذا أو ذاك أو التوضيح لفلان أو علان أو إلى صمت على مضض تجاه بعض ردود الفعل المحتملة!) وتلك أروع الدروس وأجملها التي يتعلمها المرء في البوح بسيرته أو مسيرة سنواته دون تعال أو مرض مفعم بالنرجسية والبطولة الفارغة. صارت الساحة الآن مجالا لاستعراض تلك البطولات في الهواء ودون فائدة تذكر. ذلك لم يكن شأن مفتاح ماضي وجيله. نكران الذات والعمل الحقيقي تجاه الآخرين في صمت والمواقف التي لا تعلن عن نفسها. لم يكن محل اهتمام منه وهو المثقف وصاحب عديد اللغات والمترجم.. والشاعر الذي ينهمر القصيد من قلبه مع كثير من الدم.. دم المعاناة. الكثيرون لا يعرفون ذلك. لا تهمهم سير الرجال وحياتهم ومواقفهم. يظلون في غفل عنها. ولا يتطلعون إلى الشمس مثل رجل اسمه مفتاح ماضي.

آخر الرحلة كانت نزفا لأطياف سيرة مازالت مخطوطة، لكنها في عنقي. تواصلنا بشأنها إلى آخر أيامه. ومنذ أسبوع غادر الرجل الجميل وآثر الرحيل في هدوء. لم يعلن عن ذلك. لم يستعجل الرحيل. لم يستعجل نشر سيرته. حياته ومواقفه وقيم البساطة والتسامح مع الجميع هي سيرته الكبيرة التي ستبقى دون بهرجة أو ألوان.

مفتاح ماضي.. الصاحب العزيز.. أنا أشعر بالحزن الكبير.. فدعني أبكيك مع الأصدقاء.. مع ليبيا التي تظل تفقد أصحاب السير النظيفة والمواقف النبيلة.
وداعا.. إلى حين!!