Atwasat

كهوف الكائنات العائدة

منصور بوشناف الخميس 22 فبراير 2024, 10:33 مساء
منصور بوشناف

لا يبدو المنفى في أعمال «عمر جهان» إلا عودة، عودة للذات أولاً وعودة للوطن «الرحم» بمعناه الوجودي والتاريخي ثانياً، فعبر منفاه في القاهرة بمصر يعود «عمر جهان» إلى ليبيا، وتحط كائناته الطائرة في كهوفها البعيدة لتكشط عن جدرانها وأسطحها ركام وغبار النسيان والجفاف، لتنبعث الحياة تظاهراً ورقصاً واحتجاجاً وعذابات وآلاماً وتضج كهوف ما قبل التاريخ بأجساد المتظاهرين في بنغازي وبأرواح المعتقلين في معتقلات الفاشية الوطنية، إنها مرحلة الكشط لكل ما قبر الذات والكيان، وإطلاق العنان للكامن تحت صخور بلال وسيزيف.

في «كهفيات الحبر والشمع»، «وهو معرض جهان الأول في المنفى» يغوص «جهان» كشطاً وحفراً في كهوف «الذات» تاريخياً ووجودياً، ليس بحثاً عن لقيات أثرية ولكن تخليقاً جديداً لماضٍ وحاضر ومستقبل دفن تحت صخور القمع والنسيان.. إنقاذ للذات التي صارت في المنفى «وطناً رحماً».. إنه ينجز مهمة «رسام بورخيس» الذي أمضى عمره يرسم أجراماً وأكواناً، مخلوقات وأشجاراً ونباتات لا محدودة، ليكتشف بعد كل هذا الرحيل وهذا التجوال الذي أنجزه في لوحته أنه لم يرسم إلا وجهه الحامل لكل تفاصيل أكوانه وحيواناته ونباتاته، وكواكبه وأجرامه.

الحبر والشمع، السيولة والثبات، الحركة والسكون، ثنيويات ما قبل المنفى وما قبل «الحداثة» يذيبها «جهان» وتذيبه في كهوف الذات وتطلق كائناته حرة عبر سماوات كهوف التاريخ..

ينخرط عمر جهان في أعمال المعارضة الليبية بالخارج كفنان أولاً، فينتج لوحات تعبر عن القمع والبؤس الذي يعيشه الإنسان في ليبيا تحت القمع ومقترباً من الأشكال التصويرية، ليظهر الإنسان الليبي البسيط مثقلاً بعذاباته، يظهر وجهاً وجسداً يقف في الفراغ، مطروداً من المكان، مؤبداً في الفراغ، مقذوفاً في الفراغ وليس طائراً بالتأكيد.

هذا الإنسان الليبي المعلق في الفراغ، تخلق له لوحات عمر جهان كهفاً رحماً، وتكشط عن ذاته وروحه غبار وأوحال قرون من النسيان والقمع، لتكون «كهفيات الحبر والشمع» عودة كائنات ظلت مطمورة في منفاها التاريخي الطويل، تعود إلى كهف الفنان «رحمها» الذي تتخلق فيه من جديد.

«الخفة» أحد أهم ملامح أعمال «جهان» التي تشكلت عبر «اسكتشات يوميات» انتفاضة طلبة جامعة بنغازي عام 1976م التي كان يرسمها يومياً أثناء مشاركته في تلك الانتفاضة.

تلك «الاسكتشات» كانت رقصاً حراً وتحرراً من قيود «التصويرية» التي طبعت ملامح بداياته، كانت تحولاً ورحيلاً من الريف والنخل إلى رقص الشوارع وتحرر الأجساد الشابة تظاهراً وموتاً وبعثاً جديداً، كان يرسم راقصاً وضاحكاً، كان النخل يتحول إلى خطوط تطير وكان الحجر يتحول نيازك لرجم الطغاة في «كرنفال» «الحرية».

«الخفة رغم الأثقال» ولدت إذ ذاك وسط تلك الانتفاضة، في شوارع بنغازي عام 1976م، حيث ينطلق جسد الطالبة كالسهم نافضاً عن روحه ركام الحجر والوحل، منطلقاً وقد تجرد إلى خطوط رشيقة واثقة وتجردت حجارته دوائر أنوثة ملتهبة، الأرجل والأذرع تتجرد خطوطاً حرة لا يشوبها اعوجاج.