Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي! (3-8)

سالم الهنداوي الخميس 22 فبراير 2024, 04:56 مساء
سالم الهنداوي

.. بالحذر منهم وبما يكتبون وينشرون، تتعامل الأنظمة العربية مع مثقفيها على حدّ الندّية والتماهي، وتستثمر حضورهم العربي والدولي كأبناء جنسية فقط، وليسوا كمفكّرين إصلاحيين قادة، وفي مرتبة عقلية هي الأفضل لإدارة شؤون البلاد- دون السلطة الحاكمة- ذات الولاء للقبيلة والحزب ومعسكر الانقلاب.. ولذلك حرصت هذه الأنظمة على إبعاد المثقّف الوطني عن دائرة السُّلطة خشية تأثير المنطق على مستقبلها السياسي ومكاسبها، بل وحرمت المثقّفين "الاتحاد" الذي يجمعهم على عاتق فكر التنوير في سبيل الإصلاح المجتمعي ونشر المعرفة برؤى حضارية تضيء الدرب للعقل الجمعي وتحمي تطلعاته للمستقبل.

كانت روابط الكُتّاب والأدباء في العديد من الأقطار العربية محدودة الأداء في مجتمعاتها، وبعضها أصبح كمجالس مقاهي المدينة يلتقي فيها المثقفون بلا فعل ثقافي ثم ينفضّون إلى بيوتهم منكسرين بأحلامٍ عطشى، وقلة قليلة منهم، تاريخياً، أثناء وبعد فترة المقاومة ضد الاستعمار، كانت لها مجالسها وصالوناتها الثقافية التي كانت تُدار بعِلم الدولة، وما عداها يعتبرها النظام تجاوزاً وتنظيماً مُحرّماً يودي إلى السجن، فيما إذا عزم النظام إقامة نشاط ثقافي أو فني عام، استنفر الجميع وجمعت له على منصّاته ما شاءت من أسماء مهمّة وغير مهمّة من مختلف الأطياف، وضيوف بعدد المقاعد في كبريات المسارح ومدرّجات الجامعات وقاعات المؤتمرات، ومثال ذلك كان مهرجان "المربد" الشعري في العراق بمظهره الثقافي الكبير الذي يُقام في بغداد منذ أكثر من خمسة عقود، بمحاكاته الثقافية لـ"سوق عُكاظ" التاريخي قبل الإسلام حين كان يلتقي الشعر والشعراء، والذي به عرف العرب "المنابر الشعرية" قديماً وحديثاً.. لكن متى كان المثقّف عضواً فاعلاً في "جماعة ثقافية" غير حزبية، أداتها الوحيدة الفكر الحُر المستنير الذي يضيء مشوار المجتمع ويقوده إلى المستقبل.. وهذا ما لم يتحقّق في خلال عقود من الحِراكات النخبوية الأحادية المرتهنة بواقعها الاجتماعي ومرجعيات ماضيها، وصدمتها بالسُّلطة الجائرة التي حرمتها فرصة المواجهة وصناعة مستقبل يتأسس بوعي المجتمعات ويتأثّر بقضاياها الفكرية ومواقفها النقدية من حركة التغيير الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والصحّي.. إلخ من منظومة إدارة الدولة.

لم يستطع المثقّف "الفرد" تغيير الواقع السياسي للنظام باعتباره فرداً خارج منظومة ثقافية متكاملة، فينحسر نشاطه الذهني في البحث الفردي، وإن كانت المراجع التاريخية بتراكماتها المعرفية تفيد بإسهاماتِ مثقّفين من ساسة السُّلطة، لكنّها إسهامات رادحة في عطائها الممنهج لمصلحة السُّلطة ولم تكن كفيلة وطنياً بصياغة مشروع المستقبل.

عندما يترك المثقف همومه الشخصية وينخرط في هموم الآخرين، حينئذ سيكون مثقفاً حقيقيا؛ أي عندما يتزوّج المثقّف -كما يقول الفرنسيون- هموم الوطن وهموم المجموع؛ أي حملها على ظهره! فالمشكلة - في رأي الجابري- تتلخّص في أن المثقفين ينطلقون كأشخاص مستقلّين؛ إذ إنهم عندما يفكِّرون كمثقفين ويشرعون للمستقبل؛ فالغالب أنهم لا يعملون كفريق في مختبر؛ بل إن كلا منهم يفكِّر ويعاني ويعبِّر عمّا يفكِّر ويعاني.

ومن خلال هذه التعبيرات يتكوّن وعي تام، قد يقوم هؤلاء المثقفون بقيادته.. ولهذا السبب فإن السُّلطة - في نظر الجابري- تخاف دائماً من المثقفين. ولتعزيز هذه الفكرة استشهد الجابري بمقولة جنرال فرنسي حين قال: "عندما أسمع كلمة مثقف أضع يدي على مسدسي"!*

عندما أصرّ "الجابري" على القول بأنّ المثقّف- العالم هو الذي يقول الحقيقة للحاكم والمستعصي على الاحتواء حين نبش في نصوصنا التراثية، وسرد القصة المشهورة التي جرت بين "أبي جعفر المنصور" و"عمرو بن عبيد المعتزلي" الذي شارك في "الثورة العبّاسية" إلى جانب صديقه أبي جعفر، فلمّا انتصر العبّاسيون، وتولّى أبو جعفر الحُكم نادى على صديقه عمرو بن عبيد الذي كان معتزلياً طلب منه أن يأتي إليه. فلمّا جاءه قال له أبو جعفر: أنا أريدك أن تعينني على هذا الأمر وإقامة العدل. فقال له عمرو بن عبيد: "يا أبا جعفر! أغلق بابك في وجه الانتهازيين.. يكون العدل في البلاد قائماً بنفسه، فلا تحتاجني"، فلمّا خرج انطلق مسرعاً وأبو جعفر ينظر إليه ويقول: "كلهم يمشي رويداً، كلهم يبغي صيداً، غير ابن عبيد"؛ حيث كان الذين يقصدون القصر يتباطأون عند الخروج، ينظرون ذات اليمين وذات الشمال في انتظار "الصلة".. أما عمرو بن عبيد فقد انطلق يجري مسرعاً إلى باب القصر دون التفات.. فمن خلال مقاربة الجابري لعلاقة المثقف بالسلطة يمكن الوصول إلى اختصار هذه العلاقة في "القاعدة الجابرية" التي تقول: "لم يحدث في التاريخ أن وجد حاكمٌ مستبد أو ناجح أو فاشل بمفرده، من يدورون حوله من مثقّفين وفنيّين وغيرهم، هُم المسؤولون إلى حد كبير جداً على الفشل أو على النجاح"!

.. كُل الأنظمة العربية كانت بحاجة إلى "المثقّف العضوي" في حياتها السياسية، لكنّها تخاف على نهجها من منهج المثقّف المستقل، المثقّف المقيم بين الناس، يمشي معهم في شوارعهم، ويجلس معهم في مقاهيهم الشعبية.. المثقّف الذي يقف مع الناس في الطوابير الطويلة لكنه يعجز في إقناع الحكومة بأن الطوابير ليست ظاهرة حضارية بالمرة عندما تتوفّر الحاجات بدراسة الاحتياجات، فالمواطن لم يصنع الطابور وليس من مصلحته إضاعة وقته واقفاً على "دجاجة" في جمعيّة استهلاكه.. إن الاكتفاء الاقتصادي دليل ازدهار، لكن النظام، بعقلية ساسة الخواء، يتعمّدون بجهل معرفي تعميق الأزمات لتعيش الشرطة على تنظيم الطوابير، وأن يعود المواطن إلى بيته في نهاية النهار حاملاً خيبة الحياة في كيس وردي بدجاجة وردية مجمّدة!

أصبح حال الأنظمة العربية من التقاليد السياسية المعمول بها في الدساتير، الدساتير الوضعية التي تحفظ حق العَلَم والنشيد والأمن القومي، لكن لا نصّ في دستور يمنح الناس حقهم من الدجاج، وهو الحق الذي يسري على رغيف الخبز قبل أن يتحوّل في زمانه إلى رمزٍ للثورات الشعبية.. إن أدق التفاصيل في حياة المجتمعات تعني بالضرورة حق الإنسان في العيش دون أن يطالب الحكومة بأولويّات حقوقه في الحياة والعيش الكريم، وهو الإنسان الذي دخل طوابير الانتخابات وانتخب سادة الجوع في حفلة تنكرية هزلية كانت وستكون دوماً عنواناً للجهل!

* المشهور أن العبارة منسوبة إلى وزير الدعاية النازي جوزف غوبلز. (المحرر).