Atwasat

ترحال: بين الأمس واليوم: ليبيا وتونس في «وثائق ويكليكس وأسرار ربيع الثورات العربيّة» للباحث المغربي حسن مُصدق

محمد الجويلي السبت 08 نوفمبر 2014, 02:39 مساء
محمد الجويلي

ما جعلني أعود إلى كتاب د. حسن مُصدق، الباحثِ المغربي في مركز الشرق الأوسط والعالم العربي بجامعة السوربون بباريس الذي صدر في المغرب الأقصى منذ سنتين (الدار البيضاء -المركز الثقافي العربي 2012) بعنوان «وثائق ويكيليكس وأسرار ربيع الثورات العربيّة» هو ما يتضمّنه من معلومات مهمّة واستنتاجات محكمة الاستدلال والحِجاج من خلال دراسة الوثائق السرّية الدبلوماسيّة، لاسيما مراسلات السفيرين الأمريكيين في طرابلس وتونس قبيل بدأ الأحداث التي عصفت بالنظامين السابقين في البلدين الجارين التي وُفِّق مُصدق، أيّما توفيق، في استنطاقها وتحليلها في أسلوب هادئ رصين يجمع بين الإمتاع والمؤانسة، من جهة، والاستنباط الاستشرافي لمستقبل منطقة المغرب العربي الكبير برمّته، من جهة أخرى.

انسحب الناتو من اللعبة التراجيديّة وترك الإخوة الأعداء يتقاتلون

وللمغاربة في ذلك، كما نعلم، تقليد عريق سنّه المرحوم المهدي المنجرة دون إهمال التوثيق المحكم لأهمّ ما كُتب في هذه المسألة من أبحاث ودراسات جدّية بالعربيّة والانكليزية والفرنسيّة.

إنّ أهمّية الكتاب، وهو الذي صدر إثر الزلزال الذي حدث في البلدين الجارين في شرق المغرب الكبير تكمن أوّلا في استشرافه للّحظة الراهنة التي تعيشها كلّ من ليبيا وتونس بدخول البلد الأوّل في أتون حرب دمويّة شرسة بين ثوار الأمس من المناوئين للقذافي لا نعرف متى تضع أوزارها، ووصول البلد الثاني إلى انتخابات تشريعيّة لأوّل مرّة في تاريخها وُصفت بأنّها حرّة ونزيهة رغم بعض التجاوزات ستُتبع بانتخابات رئاسيّة بعد أيّام، ما يوحي أنّ البلد قد وصل في الظاهر إلى شاطئ الأمان، كما تكمن كذلك في طرح السؤال القديم المتجدّد المتعلّق بمدى تأثير التدخّل الخارجي الأمريكي والأوروبي على وجه التحديد في الأحداث التي جرت في البلدين منذ أربع سنوات، ما يجعلنا نفكّر بدورنا في تأثير هذه القوى الخارجيّة ذاتها في هذه المرحلة الانتقاليّة المتواصلة إلى اليوم التي تلت سقوط نظامي القذافي وابن علي؟.

بعد أن تناول الباحث المغربي بالدرس والتحليل البرقيات السرّية التي أرسلها كلّ من السفيرين الأمريكيين في طرابلس وفي تونس سنة 2010مشيرا إلى كشفهما عن الفضائح الأخلاقية لعائلتي الرئيسين المخلوعين واستيلائهما على المال العام وتبذيره على شهواتهما (السفير الأمريكي «كريتز» يستثني سيف الإسلام الذي كان يحظى باحترام الكثير من الليبيين على حدّ قوله لكونه نأى بنفسه عن المجون مقارنة بإخوته الذكور وانصرف إلى الإصلاح من الداخل والأعمال الخيريّة) ( ص .106-236) دون استشعارهما لما سيحدث بعد سنة من تحوّل عنيف سيقلب الأمور رأسا عل عقب، ما يعني أنّ ما وقع في البلدين هو بفعل حراك داخلي محض وبإرادة الشعبين وليس بفعل مؤامرة خارجيّة كما يروّج البعض.

استراتيجية الغرب، خاصة في ليبيا، هي أكثر تعقيدا ممّا ذهبنا إليه

وقف د. مُصدق على مظاهر التدخّل الخارجي خاصة الأمريكي منه لاحتواء انتفاضة الشعبين واستثمارها لمصالحها الاستراتيجيّة في المنطقة قائلا «فإذا كانت الجماهير العربية في تونس وليبيا قد قامت بتضحيات جسام من أجل إسقاط أنظمة متسلّطة واستبداديّة ما يفنّد نظرية أنّ ما قامت به هو بفعل عوامل خارجيّة، فهذا لا يعني أنّ الأحداث السياسيّة الكبرى تُولد فجأة أو تستعصى على التوجيه والتأثير والاحتواء...... فهناك مؤشّرات ملموسة ولا تزال قائمة عل اختراق فاضح في نسيج العالم العربي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من قوى خارجيّة تبرّره أهمية الدول العربية الجيوسياسيّة في ميزان استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي» (ص232- 233)

قبل ذلك خصّص حسن مُصدّق، وهو الذي لم يهمل استراتيجيات الدول الكبرى ومصالحها في المنطقة في مصر والجزائر والمغرب، فصولا كاملة حول ليبيا (ص103-151) وتونس (ص89-92 و199-232).

لا يمكن بالطبع عرض كلّ الأفكار التي ساقها المؤلّف حول انتفاضة الشعبين، رغم أهمّيتها، لكون السياق لا يسمح بذلك وسأقتصر على عرض ما يفيدنا من أفكاره وبراهينه في فهم بعض الألغاز التي تكتنف الاستراتيجيّة الأمريكية والأوروبية في البلدين هذه الأيّام بعد اتخاذ الصراع السياسي في ليبيا طابعا مسلّحا أعاد البلاد بعد هدنة عامين تقريبا إلى مربّع الاقتتال الأوّل الذي انتهى بالإطاحة بالقذافي وقتله شرّ قتلة وبعد أن وصل الفرقاء السياسيون في تونس بعد أن احتدم الصراع بينهم ووصل إلى أرقى درجات التوتّر إلى ما ينبئ بوفاق ديموقراطي بعد نجاح الانتخابات البرلمانيّة وتسليم الجميع بنزاهتها حول التداول السلمي للسلطة.

ملخّص ما أكّد عليه الباحث أنّ الظروف الموضوعيّة لانتفاضة الشعب الليبي كانت متوفّرة، ما يجعل هذه الانتفاضة حتميّة تاريخيّة ومن ثمّة فإنّه ليس ثمّة أدنى شكّ في كونها نابعة من إرادة هذا الشعب، ولكن بمجرّد تدخّل الناتو واتّخاذه قرار إسقاط القذافي وبقوّة بدأت القوى الغربيّة تخطّط لما بعد القذافي وهنا وجدت الثورة الليبيّة نفسها بين الغول وسلّال العقول وهذا ما عبّر عنه أحسن تعبير عبد الفتاح يونس في قوله الذي يسوقه مُصدق «الثوار وقعوا بين مطرقة القذافي وسندان حلف الناتو...... لا حول لنا ولا قوّة، نحن تحت رحمة الناتو» (ص.110) وهنا يطرح الكاتب سؤالا إنكاريّا «لماذا وقع التخلّص من اللواء عبد الفتاح بالذات فالرجل يعرف أنّ هناك قادة من الثورة متورّطون أيضا كما تورّط هو نسبيّا في الماضي في انتهاكات القذافي الجسيمة بشكل من الأشكال؟ لهذا هل صحيح ما يتردّد انّ هذا القائد كان يدرك منذ الوهلة الأولى أنّ مصالح الحلف الأطلسي وحساباته هي غير مصالح الثوار كليا؟» (ص.112).

مصلحة الناتو إذن الحقيقية تتمثّل في استغلال ثورة الشعب الليبي من أجل الكرامة والحرية و تأمين ثروته التي بدّدها آل القذافي وشركاؤهم في الحكم لتأمين مصالحه هُو في البلد وهي كثيرة حتّى ولو كان بإغراقه بالسلاح الذي كان يتدفق أمام أعينه وبمساعدته بالأطنان مع علمه أنّ هذا السلاح الذي يكفي بما يطيح بأكثر من مائة قذافي سيُستعمل لاحقا في التقاتل لوراثته، خاصة وأنّ باب العنف قد فُتح على مصراعيه والأرضيّة التي فلحها القذافي نفسه طيلة أربعين سنة لا تصلح إلّا للاقتتال والاحتراب، رغم أنّ طبيعة الشعب الليبي، على حدّ تعبير مُصدّق، في أصلها سلميّة وطيّبة وما الإجهاز علي القذافي نفسه بتلك الوحشيّة عوض القبض عليه حيّا ليكشف عن أموال ليبيا التي خبّأها في المصارف العالميّة من جملة الجرائم التي دُفنت معه إلّا إشارة دالّة واستباقيّة على العنف الوحشي الذي سرى في ليبيا اليوم سريان النار في الهشيم وعلى الحرب الضروس التي تدور رحاها هذه الأيّام في بنغازي وقبلها في طرابلس وفي جبل نفوسة وفي الجنوب. هذا ما يقودنا إليه تحليل صاحب كتاب «وثائق ويكيليكس و أسرار ربيع الثورات العربيّة».

الظروف الموضوعيّة لانتفاضة الشعب الليبي كانت متوفّرة ما يجعل هذه الانتفاضة حتميّة تاريخيّة

انسحب الناتو من اللعبة التراجيديّة وترك الإخوة الأعداء يتقاتلون وهو يتفرّج من بعيد، شعاره في ذلك «أمطري حيث شئت فخراجك لي» كلّما تقاتلتم و تعمّقت جراحكم أكثر إلّا وهرولتم نحوي لتطبيبكم وازداد ارتهانكم لي وطلب الواحد منكم دعمي على حساب الآخر- وما اجتماع هنري ليفي الذي استنكره الكثير من الليبيين بشخصيات ليبيّة في تونس قبل أسبوع إلّا خير دليل- حتّى إذا ما أنهككم الاقتتال ودمّرتم البلد أخرجت المائتي مليار دولار من أموالكم المخزّنة في شكل سندات خزينة في مصارفي وعقارات وأصول في شركاتي لإعمار ما دمّرتموه بأيدكم، هذا عدا وصولي دون متاعب إلى الثروة الليبيّة الهائلة التي عدّد مصدّق بعض مكوّناتها: الـ47 مليار برميل من النفط الخفيف ذو الجودة العالية و 1540 مليار متر مكعّب من الغاز والطاقة الشمسيّة الهائلة التي أسالت لعاب الألمان منذ عام 2009 وعقدوا فيها صفقة مع القذافي، ما جعلهم، على حدّ تفسير الكاتب، يتردّدون ويتحفّظون في دعم الحرب المعلنة عليه، هذا علاوة على وضع يديه على موقع استراتيجي في أفريقيا وعلى ضفّة المتوسّط لا يضاهيه قيمة موقع آخر (ص .113-114 -116)

هكذا يدفعنا مُصدّق إلى الاعتقاد بأنّ موقف الغرب، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، المتردّد اليوم، بل المتفرّج على تدهور الحالة الأمنية الليبيّة و انعكاساتها المأساويّة على المواطنين الليبيين رغم أنّ القرار الأممي 1973 الذي يجيز التدخّل لحماية المدنيين مازال ساري المفعول إنّما هو من قبيل ترك الحبل على الغارب حتّى تنضج الثمرة أكثر ويحين قطافها و التمتّع بطيّباتها. أمّا عن تونس فمُصدّق الذي لم ينف أنّ انتفاضتها مثلها في ذلك مثل ليبيا نابعة من إرادة شعبيّة، فالوضع فيها مختلف، لا فقط بسبب قوّة المجتمع المدني فيها و صلابة الاتحاد العام التونسي للشغل العريق( ص.201) و إنّما لأنّها، وإن تتمتّع بأهميّة استراتيجيّة وجغرا-سياسيّة، فإنّها لا تسيل لُعاب القوى العظمى لثرواتها المحدودة، وإنّما لأنّها تمثّل مخبرا خاصة لدى الولايات المتحدة لتجربة الإسلام السياسي المعتدل الذي لا يتعارض مع مصالحها في المنطقة، هذا إذا لم نقل أنّه يخدم هذه المصالح ويرعاها بعد أن استنفدت الأنظمة القديمة كلّ طاقتها ولم تعد صالحة لهذا لدور.

 خصّص حسن مُصدّق فصولا كاملة حول ليبيا وتونس

هذا إضافة إلى أنّ هذه القوى في حاجة إلى نقطة ارتكاز ومكان آمن في منطقة مليئة ببؤر التوتّر أوالقابلة للتوتّر حتّى تراقبها عن قرب والتي ليس من الصدفة أن تكون هي ذاتها البلدان التي تسيل اللّعاب بخيراتها الموجودة في باطن الأرض وما عليها، ما يجعل من تحقيق الاستقرار والأمن في تونس مسألة تتعلّق بالأمن القومي لهذه القوى الدولية التي بذلت كلّ جهودها ومارست كلّ أنواع الضغط من أجل دفع الكتلتين السياسيتين ذاتي التوجّه الاقتصادي الليبرالي ممثلتين في إسلاميي النهضة وعلمانيي نداء تونس الأكثر شعبيّة من الأحزاب الأخرى لتقاسم النفوذ وتحمّل مسؤولية استتباب الأمن في البلاد، وهو ما تجلّى في فوز الحزبين بأكبر نسبة من مقاعد البرلمان القادم دون أن يعني ذلك أنّ هذا الوفاق لا تنتظره مطبّات وتهديدات حقيقيّة لا أحد يمكن أن يتكهّن بها.

وفي الحقيقة فإن استراتيجية الغرب، خاصة في ليبيا، هي أكثر تعقيدا ممّا ذهبنا إليه أو ما دفعنا د. مُصدّق إلى التفكير فيه، وقد تختلف بين أمريكا و الاتحاد الأوروبي الذي سيُجبر آجلا لقربه من ليبيا على التحرّك وعدم الاكتفاء بدور المتفرّج، فالنار المشتعلة هنالك يهدّد نسيم المتوسّط في كلّ لحظة بأن ينقلها إليه.

غير أنّ أهميّة كتاب الباحث المغربي تكمن بالأساس بعد سنتين من صدوره في تحفيز الفكر على الربط بين اليوم والبارحة ورصد الأحداث والوقائع المتسارعة وطرح الأسئلة الأكثر إلحاحا حول مستقبل الثورات العربيّة ومصيرها.