Atwasat

الحصادي طليقاً

منصور بوشناف الخميس 08 فبراير 2024, 11:10 مساء
منصور بوشناف

ظلت الفلسفة منطقة ألغام مغلقة وخطرة، بالنسبة لليبيين، لعقود طويلة من حياتهم الفكرية والثقافية، فهي «السفسطة» بالمفهوم الليبي الذي لا يعني إلا «الكلام الفارغ» الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وهي التجديف وطرق أبواب الكفر والزندقة، وهي الريبة والشك فيما لا يشك فيه، وهي «محاريك السو» التي يجب ألا تدخل المجالس ولا تبلبل العقول وتثير الفتنة.

العقل في ليبيا ظل وفياً لمبدأ «من تمنطق فقد تزندق» الذي ورثه من عصور انهيار الحضارة الإسلامية.

رغم كل ما أسلفت فإن قادة مشروع التأسيس والنهضة الليبيين ومع تكوين الدولة الليبية أثر الاستقلال فتحوا أبواب عقول أبنائهم مبكراً على هذا الحقل الملغوم فشرعت المدارس والكليات في تدريس الفلسفة.

دارسو الفلسفة الأوائل من الليبيين توفرت لهم، ورغم كل ما أسلفت، الظروف والإمكانات لدراسة ممتازة للفلسفة في ليبيا ثم في الخارج، فقد كان الطموح كبيراً لتكوين كيان حديث قادر على البقاء والتقدم، لذا بدأ طلاب الفلسفة يتميزون مبكراً في مجتمعهم الجامعي والثقافي، يتميزون بالقدرة على التفكير وطرح الشكوك والأسئلة ليس في الأفكار المجردة فقط بل في مسيرة الفرد الليبي والمجتمع وتحولت الفلسفة إلى حقل ينفتح على كل الحقول، على القانون والزراعة والصناعة والفنون، على الفرد والأسرة، على الريف والمدينة، بدأ المتفلسفون في البروز في كل المجالات ليشتبك الجميع في حوار اجتماعي واسع عن النهضة والعلم والدين والموت والحياة.

هذا الحوار الاجتماعي والثقافي والسياسي وصل ذروته في سبعينيات القرن الماضي بعد سيطرة الضباط الوحدويين الأحرار على البلاد لتتجلى الفلسفة كأطروحات أيديولوجية متنوعة ومتناقضة لرسم مستقبل البلاد، لينتهي الحوار عام 1973م باعتقال كل حاملي تلك الأفكار وتصفية أثرهم من المشهد ليقفل الحوار ويمضي «مونولوج» السلطة في هديره مكتسحاً كل الأفكار.

تراجعت الفلسفة إلى قسم صغير وهامشي بكلية الآداب ومنع تدريس غالبية المدارس الفلسفية وبدا عدد طلابها في التناقص حتى تلاشت بآخر حوار عن الفلسفة بين القذافي وبعض الأساتذة وطلبة من اللجان الثورية لتصبح قسم التفسير.

«نجيب الحصادي» كان من أوائل من درسوا الفلسفة في ليبيا وشغف بها ونال تكويناً معرفياً رصيناً في الجامعة الليبية أو في الخارج كغالبية جيله، وواصل رغم كل الظروف مع محبين للفلسفة جمع أشلاء وإعادة ترميم وإحياء لموؤدة اسمها الفلسفة في ليبيا.

في «أرسان الروح» وهي سيرة للحصادي طالب الفلسفة وأستاذها ومترجم أعمالها، يسرد لنا سيرة أرسان الإنسان وأرسان المعرفة، أرسان المجتمع وأرسان الثقافة وأرسان المكان.
في هذه السيرة يقدم لنا الحصادي الجانب الوضيء «للقيد» ليكون «الرسن» والرسن لا يوقف المقاد عن الحركة بل يحركه في اتجاه صحيح، وهذا ما فعلته به أرسانه «العائلة والمدينة والجامعة والفنون والآداب» في مسار الفلسفة.

عبر هذه الرحلة الغنية والملهمة وبأرسانها يتجلى التفلسف طليقاً بفضل «أرسانه» ولا تبدو القيود والحواجز والمطبات التي حاولت وأد الفلسفة إلا سدوداً هشة أمام تدفق نهر المعرفة ومسيرة الفلسفة في ربعها الليبي الخالي.

أرسان الحصادي لا تبدو إلا مقامات موسيقية تحاول عبر الفن نبذ النشاز في معزوفة الحياة والمعرفة ومناورة على قيود تعادي التفكير والموسيقى وتكرس الجمود وتحريم طرح الأسئلة.
في «أرسان الروح» تظلل عرائش الياسمين الدرناوي والمزمار الدرناوي نثر الحصادي لتتعارش مع شعرية درنة والعوكلي والعجيلي وبللو وتلقي لنا بالحصادي طليقاً بأرسانه الناعمة والحكيمة.