Atwasat

شيء في صدري عن الرواية!

أحمد الفيتوري الأربعاء 07 فبراير 2024, 12:44 صباحا
أحمد الفيتوري

في ما الرواية؟
الكتابة السردية، حياتنا، نحن نسرد عند اليقظة وفي المنام، ومن هذا فإن النص الروائي يستدعي كينونته من الحياة، فيكون أكثر واقعية من الواقع، وقد احتج «ماركيز» على حشره في واقعية سحرية، فأكد أن سردياته واقعية، وأن السحر كامن في الواقع، وليس مضافًا إليه. ولكل نص استراتيجية، لكن هناك أيضًا، استراتيجية تخص الكاتب، ما تجعل منه كاتبًا، له خصوصية مميزة، فمثلًا عندي الكتابة النوعية، كتابة شعرية في كل حال، فالشعرية من لزوم ما يلزم في الفن عمومًا، ولذا لو ميزنا نصًا نثريًا بالشعرية فنحن في عين الصواب. ولعل قصيدة النثر كمصطلح التباسي، يبين أن المسافة بين الشعر والنثر ضيقة، حتى إنها تُرى من خرم الإبرة. ومن هذا الالتباس الجميل، أن الشعر التحسس العالي للغامض، فالأسطوري حيث تكمن الحياة البشرية، لذا الواقع الذي نرى في النص، ينزاح عن المعيش، فكأن النصوص أساطير، لا يألو ينتجها الكتاب. وأريد أن أنوه، أن جدات الحكايات، مؤلفات أساطير، تنزاح عند كل رَاوية، وفي كل رِواية، وهذا كان النبع الذي يسقى المخيال.

الرواية، السرديات جملة، كما الأساطير منشؤها الخيال الخصب ولو كانت واقعية وصفية، فالأحداث والأماكن والأسماء ليست هي ذاتها في الرواية، فإنها في الرواية مبتدعة ولا تشكلها الذاكرة. كل سارد يعيد تشكيل مسروده، لم نقرأ في غير ألف ليلة وليلة بغداد المسحورة، فبغداد ألف ليلة وليلة ليست بغداد التاريخية، بغداد ألف ليلة وليلة مرتع كل الكائنات البشرية وغير البشرية، وفيها الجن والإنس يلتقيان في الأزقة والشوارع كما في فلم فنتازيا رفيع.
المرء منّا يقرأ ما يماثله على حدّ تعبير هارولد بلوم فهل يكتب ما يُماثله أيضًا؟ طبعًا ليس أنه يكتب سيرة أو ما شابه، لكن كمثل أن يقرأ ما يُماثله يكتب ما يرى وما يُعايش ويتخيل وما يرغب.

الرواية ليست مطالبة بشيء، فهي التي تحدد مساراتها بذاتها ونسيجها والقماشة التي ينسج، والرواية ليست وثيقة والروائي ليس مؤرخًا، لكن ككل كتابة حتى عن المستقبل مرتكزها واقع ما وتجربة ما. وقد يكون التاريخ أداة من أدوات الرواية، خاصة عندما تتحدث عن حادثة تاريخية أو تجربة واقعية، فالجانب التاريخي يمنح الرواية فرصة لأن توظفه في العملية البنائية الروائية، وهو ليس أساساً في العملية الروائية ولكن مثله مثل الفلسفة والشعر وغيرها من الأشياء التي يوظفها الروائي في روايته. عليه فإن الرواية ليست سيرة ذاتية، ولكن أعتقد أن السارد هو الراوي العليم في كل حال، من معينه البئر الأولى أي ذاته. وإذا كان لكل رواية راو فإن لكل قاريء قراءة، في زمن باتت فيه الرواية ما جنس لها، جنس الأجناس.

• نموذج روائي محض!
الطيب صالح، حين كتب (موسم الهجرة إلى الشمال)، كتب رواية واقعية حداثوية، لغتها شعرية مكثفة، شخصيتها الرئيسة فرويدية، تعاني من عقدة أوديب، بدت جين مورس، امرأته التي قتلها، كما قتل للأب الاستعمار، هكذا تمت قراءة الرواية من بعض النقاد. ولم أنتبه حينها، إلى أن رواية الطيب صالح، سفر العنف، كُتبت أثناء الهجرة الأولى، للجنوبيين إلى الشمال، ما بعد الاستعمار، ما حدث عقب، الحرب الأوروبية الكبرى الثانية. مع تحقق نتائج، مشروع مارشال الأمريكي في أوروبا، نهضت دول الاستعمار، من كبوتها الكبرى الثانية (التنافس الإمبريالي)، حيث اجتاحتها، حاجة مُلحة للعمالة، مع خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأ «موسم الهجرة إلى الشمال».

الرواية حافلة بالعنف، فالشخصية محاطة بضغط الحنين، إلى الشمال الذي هو الحداثة، ما تطحن وجود مصطفى سعيد، الممزق بين، أنه أداة للحداثة، الممثلة بالغرب، وأنه الجنوب، الذي عبارة عن مزود، لهذا الغرب بالطاقة: البشرية، المواد الأولية، وما في حكم ذلك... لذا مصطفى سعيد مسلوب الروح، فالهجرة ليست خيارًا، فهي نتاج الاستعمار ما بات كـ (جرثومة فتاكة)، فعندما عاد إلى السودان لم يجد ذاته، لقد بات كمعضلة، نهايتها المحتومة، بالغرق في النهر، ما لم يعد أداة للنماء، فالحداثة كما سلبت مصطفي سعيد روحه، سلبت النهر فعاليته، والتي غدت قديمة، ومتهالكة مع التطور الصناعي والتقني، ومع هذا التطور ستنضب الحياة، وتجف عروقها.

موسم الهجرة إلى الشمال، رواية مواسم الهجرة المضطردة، حين كُتبت الرواية، كانت الهجرة المرغوبة من الغرب على أشدها، وفي أثناء هذا قام الغرب وتوابعه، باستنزاف الطبيعة وتهديد الأرض، مما نتج عنه أن قارة أفريقيا، دفعت الثمن النفيس. ومن هذا فالرواية رؤيوية، وتصورية لمستقبل محتوم!، فالقارة التي جعلها الاستعمار في مرحلته الأولى، مزرعة للعبيد، في مرحلة ما بعد الاستعمار، أضحت الضحية الأبرز، لاستنزاف الطبيعة وتدمير الأرض، خاصة أنها عاشت هذه الحقبة، في حروب بالوكالة مضطردة.

الضعف البنيوي للقارة، وهشاشة تضاريسها وموقعها الجغرافي، جعل من خط الاستواء كما لعنة، فالقارة زاخرة بالثروات، وهي حديقة الأرض للحيوانات والنباتات، وفي العصر الحديث، كانت مخزن المواد الأولية، للدول الاستعمارية/ الكومنولث والفرانكفونية، وحتى اليوم الاستنزاف الأكبر للقارة السمراء، قارة اليورانيوم والماس، يتم من قبل الدول الصناعية الكبرى. إضافة إلى ذلك تجارة العبيد، عادت من جديد، في صيغة عصرية، وفي هذا الحال يُشاع، أن الأفريقيين يبخسون الحياة، وأنهم كما باع الفلسطينيون أرضهم، يبيعون أرواحهم، وأنهم مخلوقات أدنى، تلهو بالحروب الأهلية، وقادتهم يهوون الانقلابات، وأن قوات الأفريكوم الأمريكية، والقوات الفرنسية الخاصة، لحمايتهم من الإرهاب، أما قطعان المهاجرين غير الشرعيين، فإنها مسألة، ليست مهمة أحد.

هذه الرواية التخيلية، كأنما دراسة سسيولوجية ورصد شفاف، لـ (موسم) هجرة إلى الشمال، الناتج عن حالة الاستعمار، ما لم يخرج من مستعمراته البتة، بل أعاد توزيع تموضعه، ولهذا عند احتياجه إلى قوة بشرية، رجع إلى مستعمراته، بريطانيا إلى الهند واليمن وغيرهما، وفرنسا إلى دول المغرب العربي وأفريقيا، هكذا تناسلت مسألة الهجرة منذئذ، غير أن اليوم أضيفت لازمة اللاشرعية. والطيب صالح كتب رواية تخيلية، رواية الشخصية المعطوبة، مصطفي سعيد شخصية حية لانمطية، ولذلك هي شخصية كاشفة، للعلاقة المعطوبة بين الجنوب كمستعمرة، وللشمال كمُستعمِر، فمصطفى سعيد شخصية لا شخصية لها، سوى كانت في الشمال أو الجنوب، بل إنها شخصية تكون في الخفاء، وإن تجلت انمحت، وهويته في الشمال، تتجلي في كهف بدائي، كما ملهى ليلي سري، فيه مصطفي سعيد الفحل. إن سلالة مصطفى سعيد تتناسل، واليوم حملت كنية جديدة: الهجرة اللاشرعية.