Atwasat

يناير شهر القاهرة

جمعة بوكليب الأربعاء 17 يناير 2024, 07:52 مساء
جمعة بوكليب

العلاقة بشهور العام، تختلف يقينًا من شخص لآخر. قد تكون لدى البعض منا علاقة شديدة الخصوصية، بتلك الشهور، أو ببعض منها على الأقل، لارتباطها في الذاكرات والقلوب بذكريات بهيجة أو العكس. وقد تكون لدى البعض الآخر علاقة عادية جدًا، أو بالأحرى لا وجود لها إطلاقًا. بأن تتساوى عندهم كل الشهور والأيام. وبوضع الفئتين في كفتي ميزان، أراهن مجازفًا بالقول إن كفة الفئة الأولى ترجح الثانية بشكل لافت.

في السنوات الأخيرة، نشأت بيني وبين مدينة القاهرة علاقة يمكن وصفها، تجاوزا، بالمميزة. جعلتني أحرص على زيارتها سنويًا، في بداية كل عام جديد، وبزعم حضور أيام معرضها الدولي للكتاب.
تلك الزيارة السنوية غيرت علاقتي بشهر يناير، بحيث صرت كلما اقتنيت روزنامة سنوية، في بداية كل عام جديد، أحرص على تغيير اسم شهر يناير، بأن أطلق عليه اسمها: شهر القاهرة.

لا أستطيع التأكيد على أن القاهرة، على علم بوجودي، أو بما فعلته من أجلها مع شهر يناير في الروزنامة، فما بالك بادعائي أنها تبادلني نفس المشاعر؟ لكننا بشر، ومن طبيعتنا، حب التظاهر والتبجح بأشياء كثيرة، ومن ضمنها أننا على خلاف كثيرين نعيش علاقة حب مميزة مع مدينة ما. وكأننا بذلك نقول لمن حولنا، إن المدن ليست مجرد بناءات من حجر وطرق مسفلتة... إلخ، لكنها تمتلك مثلنا نحن البشر قلوبًا ومشاعر وأحاسيس، وإننا قادرون على التفاعل معها عاطفيًا، متى وقعنا في حب واحدة منها. وهو، في رأيي، قول مردود على قائله، وأمر لا يستقيم مع عقل، ولا يتفق مع منطق. ولا يعدو أن يكون مجرد كذبة صغيرة بيضاء اللون، لا تضر من يطلقها، وقد تعيب من يصدقها.

شهر يناير في ذاكرتي وفي قلبي يرتبط بالقاهرة. أي مرتبط لديَّ بموعد زيارتي السنوية إلى تلك المدينة التي لا يكفُّ البشر فيها عن الإنجاب والتكاثر حتى ضاقت بهم المساحات، وأضحوا يقلقون راحة الأموات ويزاحمونهم في سكنى المقابر، وحتى أضحت المدينة تكاد تغرق في بحر النيل، من ثقل كثرة البشر، وثقل حمولة ما مرّ بها من حقب ودول وحوادث، وكوارث على مر التاريخ.

زيارة القاهرة ربما لا تختلف عن أي زيارة تتاح لي، إلى مدينة أو عاصمة أخرى. لكنها، إلى حد ما، تتميز عن غيرها في ذاكرتي، بكونها فرصة سنوية أخرى، قبل مغادرة هذا العالم، للاحتفاء والانتشاء بلقاء أصحاب، لهم في القلب مكانة لا يزاحمهم فيها أحد، ولن يزاحمهم فيها أحد، رغم مرور الأعوام، أو ربما بسبب مرور الأعوام. وهم للأسف يتناقصون عدديًا، عامًا تلو آخر، وبوتيرة سريعة مؤخرًا. وبسبب ضيق الوقت وقصره المتاح لي، لا يمكنني تعويضهم بأصدقاء آخرين. وربما لهذا السبب وغيره، لا أحب أن أمحو من ذاكرة جهاز هاتفي الخليوي أسماء من فارقوني منهم فجأة، وغادروني من دون وداع، وتركوا مكانهم، في قلبي وفي جلساتنا، شاغرًا.

ولعل هذا ما يمنح القاهرة تميزها في ذاكرتي، وفي روزنامتي. وحين تضيق أمامي السُبل ولا أتمكن من زيارتها خلال شهر يناير، أصاب بحالة من إحباط شديد وأشعر بضيق، ربما لأني أشعر بضياع فرصة لا تعوض للسفر إلى تلك المدينة، والاستمتاع بلقاء من أحب ملاقاتهم ومجالستهم.

الحياة صعبة حتى مع وجود الأصحاب، فما بالك من دونهم؟ وصعوبة الحياة أمر تعودناه، لكن غياب الأصحاب وفراقهم أمر لا يمكن التعود عليه. وفي هذا السياق، يعنُّ لي أن أصف مدينة القاهرة بأنها صاحب عزيز علىَّ، كونها تمنحني فرصة مجزية سنويًا، تتيح لي اللقاء بمن بقي حيًّا من أصحابي في أمان وفي حبور، في عالم أضاع حبوره، ففرغ من البهجة

شهر القاهرة - يناير، هو شهر معرضها الدولي للكتاب. موعد حجّنا السنوي إلى تلك البقعة المميزة، في مدينة ندّعي تبجحًا أننا نعرفها وتعشقنا. فتقبل هي بصبر ذلك الادعاء بابتسامة ساخرة، وتدير وجهها إلى جهة أخرى. وكأنها تعودت على ذلك. وربما لهذا السبب تتركنا سادرين في غيّنا. ونحن في حقيقة الأمر، لم نقل شيئًا مريبًا، أو غير قابل للتصديق. وكل ما فعلناه أننا، على رأي إخوتنا المصريين «زودناها حبتين». وأطلقنا كذبة صغيرة، بيضاء لونها، تسر قائليها وسامعيها، ولا تعيب منهم إلا من ارتضى طوعًا تصديقها، ولا ذنب لنا في ذلك.