Atwasat

سبعون.. وستون الأعوام الحاكية

سالم الكبتي الأربعاء 03 يناير 2024, 02:12 مساء
سالم الكبتي

عام وراء عام. حول يعقبه حول. جيل يتوارى وأجيال تتلاحق. الحياة لا تكف عن الحياة. الأيام تجري. يخيل للإنسان أنها مثل بعضها. آخر يوم في أي عام يطل بعده يوم آخر لعام جديد. ليس ثمة فارق بعيد. ليس ثمة فواصل. الأيام هي الأيام. والأعوام هي الأعوام. أرقام تتبدل. لكن الأحداث والوقائع تتقلب بسرعة. أحيانا في أبعادها تشبه بعضها أو تعيد نفسها مرارا وتكرارا. والإنسان يشكل تاريخه من الأيام والأعوام. يزيد عمره أو ينقص من خلال سطورها. ولا مكان لأية فلسفة أخرى. الزمن يمر بسرعة. وفي مرات كثيرة يفقد ذلك الإنسان الإحساس به. يمر ويمضي كل شيء لكن تظل الجروح غائرة وناتئة. والنصال تتكسر على النصال.

عقد يذهب وعقد يتشكل ويتمحور. ثم تلوح عقود في نهاية المطاف تشكل تاريخا وواقعا وماضيا كان.. وربما لم يزل. ماضيا يزول لكنه أحيانا يعود بصور أخرى.. بمظاهر أخرى.

العام 2024 أطل. أقبل. استقبله العالم عند تلامس العقارب في الثانية عشرة في الليلة التي مضت ولم يظهر فيها أي قمر. والاستقبال يتكرر بنفس العبارات والكلمات والأمنيات. والخوف أحيانا مما هو قادم. شعور قوي يلازم الإنسان في وجوده. استقبال العام الجديد بنفس ملاقاة القديم.

وبينهما أيام وأسابيع وحوادث وتاريخ. والإنسان في هذا الوجود الكبير يظل هو الصورة والأصل وخارجها الإطار والفرع. الإنسان محور الأعوام وحركتها وصانع أحداثها ومتغيراتها وتقلباتها وأحزانها ومسراتها. العام يمضي والإنسان يبقى بتاريخه وآثاره وحكاياته وأحزانه. وجوده يتواصل رغم الأعوام وتجددها مع أيام أخرى وأجيال قادمة لا تتوقف بدورها. تتحرك في دور لولبي وتسلسل لا يتوقف. كالدائرة التي لا يُدرى أين طرفاها. هكذا الأيام. هكذا الأعوام. هكذا حركة التاريخ والإنسان. هكذا الحياة.

والإنسان يتوقف عند عتبة الأعوام ليقوم بجرده السنوي كما تفعل الشركات والمؤسسات والبنوك. تحصي وتعد وتفحص وتكشف وتبدأ سيرتها من جديد. الإنسان يملؤه حنين الأعوام. يخفق فؤاده تجاه الذكريات والوقائع. الجرد السنوي أحيانا يكون مرا وفي أحيان أخرى يكون مبهجا وسعيدا. الخسائر قد تطفو. الأرباح قد تتوارى. غير أن الماضي لا يعود في غالب الأحيان إلا في صورة تجدد الأعوام ومرورها.

فماذا يفعل بنا العام - كل عام- مع حركة التاريخ. هل هو مجرد رقم يتغير. مجرد لوحة معلقة على عربة أو حائط أو منزل أو أرض أو غير ذلك؟
هل نرى صورا باهتة أو ملونة مع مطلع العام الجديد تعيدنا إلى سبعين مضت وكذا بعدها بعشر تمثل ستين عاما من الزمن؟ فلنتذكر عند مطلع هذا العام: سبعون وستون مضتا منذ قليل:

العام 1954. ليبيا الفقيرة الجائعة المحتاجة إلى المساعدة تقارب الوصول إلى العام الثالث من استقلالها. تعيش أزمة دستورية نشأت بسبب مرسوم صدر عن الملك يقضي بحل المجلس التشريعي في ولاية طرابلس. المحكمة العليا التي تشكلت منذ أشهر قليلة تصدر حكمها ببطلان المرسوم. يحدث التصادم الدستوري. الملك يشعر بأن ذلك حق دستوري له ويصر على حل المجلس الذي تم. غادر رئيس المحكمة إلى بلاده مصر. ثم توقع الحكومة اتفاقية مع الولايات المتحدة. تزيد الجروح مع جرح المعاهدة البريطانية. معارضة ومنشورات. لكن الحاجة والفقر كانتا من دواعي ما أنجز من معاهدة واتفاقية قبل تفجر البترول من أرض ليبيا.

حميدة العنيزي، المرأة المتنورة، تكون في بنغازي جمعية النهضة النسائية. أول مرة يحدث ذلك بعد الاستقلال. وعلي خليفة الزائدي القادم من بيروت يشكل أول فرقة كشفية هي النواة للحركة الكشفية في البلاد. حداثة وتطور رغم الأزمات والاتفاقيات. وفي أكتوبر يحدث شرخ عميق.. عميق في الجدار. شرخ حساس رتقه كان صعبا. امتحان قاس تواجهه الدولة الناشئة حديثا. فعل كان فوق المتوقع. اغتيال ناظر الخاصة الملكية أمام رئاسة الحكومة في بنغازي. تداعيات وآثار منذ سبعين عاما لم تكشف عن الفاعل الحقيقي وراء تصرف الشريف محي الدين ذلك الصباح. فهل يظهر ذات يوم.. ذات عام.. ذات صفحة من صفحات التاريخ!؟

ثم تجري المياه في أنابيبها. أعوام وأيام وليال. أجيال جديدة. أحلام تكبر. خطاب مجاور يهدر. تأثر به لا يتوقف. تململ ومواجهة تبدو مع مطلع العام 1964. عقد من الأعوام مر. وكأن ليبيا على موعد مع الأزمات كل عقد. في السادس من يناير تبتهج الجامعة الليبية بتخريج دفعاتها الخمسة الأولى في الأعوام الجامعية من 1959 إلى 1963.

ولي العهد يوزع شهادات التخرج على جيل عاصر الحرب والجوع والحاجة والدراسة في ظروف صعبة، لكنه حقق حلمه بخدمة بلاده التي وطنت العلم وأكدت على ضرورته. بعد أسبوع من الحفل. مواجهات وصدام بالحجارة والكلمات والاستفزاز بين طلبتها، الذين لم يتخرجوا بعد، وقوات البوليس. تأييدا لمؤتمر القمة العربي الأول الذي دعا إليه عبد الناصر في القاهرة. الملك اعتذر ولم يحضر وأناب عنه ولي العهد في مقدمة وفد كبير تصدر قاعة الجلسات في الجامعة العربية التي تعلوها آيات كريمة من كتاب الله تدعو للوحدة والاعتصام. لم يتحققا حتى الآن.

ينتهي اليوم ليأتي اليوم الرابع عشر، مواجهات أخرى، لكنها دامية. قتلى وجراح وضحايا. طلبة المدرسة الثانوية في بنغازي يهتفون بالقومية العربية والوحدة ويواجهون البوليس الذي أطلق النار ونشأ عن ذلك ما نشأ. ومثل ذلك في الزاوية والجميل. قتلى وجرحى. تداعيات العام الجديد. تستقيل الحكومة. ثمة إشارات خفية تتهم دولة الجوار ذات الخطاب العالي بالتحريك والتحريض. تتوقف الدراسة. الإذاعة الليبية يلاحظ أنها أضحت وكأنها إذاعة ثورية تدعو للثأر والانتقام. برامج صعدت من حدة النقد لما وقع. الدولة ترتق ما انفتق. تعوض وتعتذر.

ويمضي الحال على حاله في تلك الأيام تنطلق بوادر أخرى لصحافة مستقلة ذات رأي مستقل.. "البلاغ" و"الشعب" توجهان النقد واللوم الصريح. توقفان من السلطة عن الصدور. وتستمر الحرية والأيام والحقيقة ثم جيل ورسالة عن كشاف ليبيا.

في "الحقيقة" ينشر رشاد الهوني شعره وقصصه ويبدأ عبد الله القويري في أولى دراساته الشهيرة عن معنى الكيان ويوسف القويري بعضا من دراساته ومسوداته المهمة. "الحقيقة" كانت نقلة قوية للصحافة الليبية المستقلة تلك الأيام. وفي صيف العام تنجز الدولة ثاني تعداد للسكان في ليبيا. الأول كان عام 1954. ويصدر خالد زغبية أول دواوينه بعنوان "السور الكبير" عن دار النشر الليبية. يصادر بعدها ولا يسمح بتداوله لحساسية بعض القصائد الواردة عبره. وفي أبريل عقب حادث سيارة عند نقطة الأربعين بعد إجدابيا يرحل البوصيري إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية، بعد اغتيال والده بعشر سنوات.

ثم في الصيف.. في بحر طبرق يغرق ابنه الوحيد إبراهيم. يدفن بجوار والده وجده في مقبرة رافع الأنصاري بالبيضاء.

غابة جود دايم تشهد في الصيف أيضا حدثا كشفيا كبيرا بتنصيب ولي العهد قائدا فخريا لكشاف ليبيا. وتتوج احتفالات الحركة الكشفية بافتتاح مبنى قيادتها العامة في طرابلس الذي شارك في إنجازه الكشافون بتطوعهم وسواعدهم. ينتهي من تصميم شاراته وأعلامه وتتوقف نشرة صور وسطور السنوية بعد أن صدرت جيل ورسالة لتكون صوتا إعلاميا وتربويا لكشاف ليبيا، ثم للكشفية العربية. المؤتمر العربي الكشفي السادس في الإسكندرية، الذي عقد صيفا، يقرر أن يكون المخيم والمؤتمر السابع في ليبيا بعد سنتين عام 1966 وكذا باقتراح من ليبيا يقرر إقامة المخيم العربي الأول للمرشدات في نفس السنة في ليبيا أيضا.

يحل الملك البرلمان وتجرى الانتخابات في أنحاء البلاد للبرلمان الجديد. يفتح الملك أعماله في المقر الجديد للبرلمان في البيضاء. ثم تسري إشاعات عن تزويرات شهيرة وقعت في دوائر مختلفة علقت بالانتخابات. وفد من القوى الشعبية والوطنية يتوجه لمقابلة الملك وإبلاغه بما حدث. في مفترق شحات يلتقي الوفد رئيس الديوان الملكي ويسلمه عريضة تتضمن مطالبه حول فساد الانتخابات. يستجيب الملك لاحقا ويحل البرلمان وتجرى انتخابات جديدة عام 1965 هي آخر انتخابات لآخر برلمان في العهد الملكي.

المعلمون في بنغازي يقررون إضرابا ويعقدون مؤتمرا موسعا في ملعب مدرسة الأمير. مواجهات مع وزير المعارف. ثم توقفت الأحداث وعولجت. الملك يمنح قصر الزهور في درنة ليكون مرفقا تعليميا في المدينة. نفس النهج لقصر المنار وقصر الغدير في بنغازي. الجامعة الليبية والكلية العسكرية.

في العام نفسه يرحل الشاعر محمد الأمين بو حامد. كان من الأسر الليبية التي هاجرت إلى نيجيريا. ومنذ أشهر قليلة قبل وفاته كان ضمن بعثة الشرف الليبية التي استقبلت الزعيم أحمد سردونه سكتو ووفده. علاقات ليبية إفريقية ضاربة في الجذور. ويرحل عمر سيف النصر الشاعر والمجاهد وثاني والٍ لفزان بعد شقيقه حمد سيف النصر الذي رحل قبله منذ عشر سنوات. والشيخ محمد أبو الأسعاد العالم. مفتي ليبيا. رجل الدين المتنور. ترأس لجنة الواحد والعشرين ثم جمعية الستين في خطوات استقلال ليبيا. الحكمة والعقل، في مواجهة التعصب والمغالاة، التي تفتقدها ليبيا في زمن لاحق. ومحمود بوقويطين قائد قوة الأمن العام والحاج عبد الله القويري رجل العمل الخيري ومؤسس المعهد الشهير في مصراتة مع بداية الاستقلال. وفي بنغازي يرحل أحد أعلامها من رواد التربية والتعليم، الشيخ السنوسي المرتضي.

هذا عندنا. أما ما حولنا. في التاسع والعشرين من مايو تتأسس منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري. خطب ووعود لا حصر لها. بعده بعام ستتشكل العاصفة، قوات فتح، وتبدأ في المقاومة حتى النصر. عبد الناصر يزور اليمن ويطالب بريطانيا من صنعاء بالرحيل من جنوبه القريب في عدن. أم كلثوم وعبد الوهاب. الصوت والموسيقار يلتقيان في أنت عمري. فيروز يعرض أول فيلم لها.. بياع الخواتم يخرجه المصري الشهير يوسف شاهين. ويرحل عباس العقاد ويوارى الثرى عند ضفاف النيل في أسوان. وفي السعودية يتنحى الملك سعود ويُنصب أخوه فيصل ملكا لها. وفي السودان يفيض النيل بالمظاهرات والمواجهات. يسقط حكم المجلس العسكري بقيادة إبراهيم عبود. الطلبة في الجامعة دفعوا الثمن غاليا. عاد الحكم المدني إلى ربوع السودان.. ولكن إلى حين!

وفي ديسمبر آخر العام يرحل بدر شاكر السياب، الشاعر العراقي العظيم، في الكويت بعد فترة علاج قاسية. يدفن في البصرة ويقام له لاحقا تمثال على شط العرب.

وفي طابور الراحلين يمضي جواهر لال نهرو ويحرق عند النهر المقدس. مرحلة الحياد الإيجابي وباندونج مع تيتو وسوكارنو وعبد الناصر. أيام توارت، لكنها تظل تظهر في التاريخ. وفي بلاد الإغريق يرحل ملكها بول. يتولى ابنه قسطنطين حتى 1967. وعلى ظهر دبابة يأتيه بابا دوبلس لينهي فترة من ديمقراطية أثينا القديمة.

أحداث. وعام وراء عام وعقد خلف عقد. تلك أطياف التاريخ وألوانه تلوح عبر الدروب مع ضياء الشموس وأقمار الليالي. التاريخ لا يتوقف.. والحصاد المر أو الجميل يستمر!!