Atwasat

جلاء الشك والرِّيبة

سالم العوكلي الثلاثاء 12 ديسمبر 2023, 01:38 مساء
سالم العوكلي

في كتابه (نهاية اليوتوبيا) يورد راسل جاكوبي، اقتباسًا مهمًا عن ليو ستراوس: «أصبحنا في موقع العقلاء والحكماء حين ننشغل بأمور تافهة، لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة: الحكمة بالتجزئة والجنون بالجملة». حيث تلوذ الحكمة المزدراة في زمن الصراع بالقضايا الهامشية حتى لا تستفز الجموع الغاضبة، وتتحول إلى أرفف بقالة في زاوية منسية من شارع خلفي، أما مستودعات الجملة تعرض على شارع رئيسي بضاعتها البراقة من كل سلعة تهيّج الجمهور وتستثير غرائزه، ومن كل منتج يزيدها هيجانًا.

كما ترد في الكتاب نفسه فقرةٌ مقتبسة عن شين أوكيزي وهو يعبر عن نشوته بالحياة اليومية في سياق مديحه الفتان لبرناردشو: «كم من الوقت أضاعه الإنسان في نضاله كي يعرف ما سيكون عليه شكل حياته التالية! وبقدر ما يزيد الجهد الذي يبذله كي يعرف، قدر ما تقل معرفته بالحاضر الذي يعيش فيه. إنه العالم المحبوب الذي عرفه وعاش فيه ومنحه كل ما لديه، ثم يأتي الواعظ المبشر والأسقف ليقولا له إن هذا العالم يجب أن يشغل المكان الأدنى في تفكيره. إنه يُوصَّى ويُؤمَر، أن يتهيأ من لحظة مولده ليقول له الوداع. أوه، كفانا سوء استخدام لهذه الأرض العادلة! ليست حقيقة محزنة إنها يجب أن تكون وطنًا لنا وملجأ. وهل فعلتْ سوى أن منحتنا المأوى البسيط والملبس البسيط والمأكل البسيط، ثم أضافت الزنبق والورد، التفاح والكمثرى. ألا يجب أن تكون السكن الملائم للبشر، خالدين كانوا أو فانين؟». لكن حيثما يتفشى اليقين المريح للعقول الكسولة، يغدو التجهم ملمح القابض على الحقيقة، ويصبح الموت الأغنية المفضلة ولازمة الهتافات واللافتات المعلقة حتى على جدران العيادات الطبية، وتتراجع الحياة إلى زاوية في شارع خلفي لأن التغني بها خيانة للتضحية ولوعود الحياة الأخرى، وتظل المنابر تسكب في آذان الورعين أن هذه الدنيا «دار باطل» وكل ما هنالك دار أخرى خالدة لا يمكن أن تصلها إلا بغرس السيف في لحم عدوك الذي هو عدو الله بالضرورة، أو بحزام متفجر يحيل الأبرياء إلى أشلاء والذريعة أنهم سيبعثون على نياتهم. ومع الوقت تختفي حتى هذه الذرائع العقيدية ويصبح العنف متعة في حد ذاته وتسلية في ألعاب الفيديو وفائضا عن، ويغدو ضحاياه من جميع الأطراف أبطالًا على صفحات التواصل، يغدو العنف هواية ووسواسًا مثل وسواس المهلهل الذي ندر حياته للقتل دون توقف والذي درسنا سيرته بشغف في صبانا وقلدناه في ألعابنا في مساءات العطل، وتصبح كل أداة مساعدة على مغادرة دار الباطل مقدسة، ويغدو الحرص على الحياة جبنًا وعارًا.

المرح والشك كانا بوصلة الحداثة التي منهما أسست كائن المعرفة الحر (الفرد الشكاك) الذي يحيل الأسئلة الشائكة إلى ملعب للمرح العقلي، وحيث لا يولد ويُنشّأ هذا الفرد يصبح تطقيس العنف إحدى آليات التنشئة التي تخدمها النماذج المختارة والمقولات المأثورة، ومن منا، أو مِن جيلي على الأقل لا يتذكر هذه الأبيات المصاغة بفنية عالية للشاعر أبوتمام التي كانت مقررة علينا في مرحلة التعليم الأساسي: «السَّـيْـفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ .. فِي حَدهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِد واللَّعِبِ/ بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ .. فِي مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَــبِ»، مع ما درسناه من كتب يعتبرها مصممو المناهج (كتبًا ثقافية) عن سيرة عنترة بن شداد، والمهلهل، كنموذجين اختيرا قدوة ومصدر إلهام للنشء؛ حيث يمتزج السيف مع الشعر في خلطة عجيبة بين الحكمة والعنف، أو بين الشاعر والسيف، فيمجد الشعر حد السيف القاطع ويرى الدم على نصله كورد نضر. يقول التشيكي ميلان كونديرا في كتابه (الستارة): «هل ينبغي أن نرى في حب الثورة المنتصرة للقافية افتتانًا عرضيًّا فقط؟ لا، من دون شك؛ فللقافية وللإيقاع سُلطة سحرية: العالم المشوَّه المحبوس في قصيدة من الشعر الموزون يغدو فجأة صافيًا ومنتظمًا وشفَّافًا وجميلًا. حين توجد في قصيدة ما، كلمة موت (Mort) في المكان الدقيق الذي رنَّ فيه، في البيت السابق، الصوت بوقCor) )، يصبح الموت عنصرًا لحنيًّا في النظام، حتى ولو كانت القصيدة تحتجُّ على الموت».

نعرف أن للشاعر سيرته ولحظته التاريخية ومناسبة قصيدته، وهو رهن بظرفه الاجتماعي أو التاريخي أو الثقافي الذي يفرض عليه استثمار قريحته في ذاك الزمن الذي كانت فيه الحروب والغزو وسلب الغنائم فخر القوافي، ومتن الملاحم الشعرية التي تضع الموضوع في سياق جمالي مُنغّم كي تخفي قبحه أو لا أخلاقيته.

بحماس كان المعلم المتفاني يشرح لنا وقتها أن السيف أهم من الكتاب، وأن صفائح الحديد البيضاء المضرجة بالدم أهم من الورق المسوّد بالحبر، فكنا ننظر شزرا للكتاب بين أيدينا منتظرين بفارغ الصبر جرس نهاية اليوم الدراسي لنركض صوب سيوفنا الخشبية ونلعب بها لعبة الحرب دون أن تتوقف نظرة الازدراء للكتب أو لسود الصحائف، وهذه البلاغة التي يركز عليها المعلم ويكررها بغبطة فيما يخص الجناس بين الصفائح والصحائف، أو التضاد بين بيض وسود (الأبيض الإيجابي والأسود السلبي) ليس مجرد تفضيل للسيوف على الكتب ولكن ملأت أذهاننا الطرية بازدراء الأسود وتبجيل الأبيض.

ليست الصفائح أداة للقتل وسفك الدماء فقط لكنها كما يؤكد الشاعر «في متونهن جلاء الشك والريب»، وحين تقدمت في العمر واطلعت على الكثير من كتب الفكر والفلسفة والعلم، كان يتكشف لي أهمية الشك والريب كمناهج لفهم هذا العالم واستبطان أسئلتنا تجاه الوجود والحياة والحقائق الممكنة، وبدأت أدرك أن أزمة ثقافتنا ورؤانا للكون تكمن في جلاء (الشك والريب) ومن أنماط تفكيرنا، وتعلقنا بيقين المعرفة الجامدة وإحساسنا أن الحقائق، كل الحقائق، قبض أيدينا، ما جعلنا نعيد تدوير معارفنا محنطين عند لحظة تاريخية واثقة من أجوبتها، مازلنا نتغنى من خلالها بأدوات العنف الفاصلة بين الجد واللعب، ومازال سيف عنترة الذي يتذكر حبيبته «والرماح نواهل من دمه*» يظلل خيالنا، وحرب البسوس وانتقام المهلهل الذي لا يتوقف يشكل نظرتنا لقيم البطولة الخالدة. وأنهينا تعليمنا الأساسي دون أن نسمع بـ أو نعرف ابن رشد أو ابن خلدون أو مهيار الدمشقي أو ابن عربي أو الرازي أو غيرهم من أنصار الحياة والعقل والعشق، وكان الفصل بين «الجد واللعب» بحد السيف مقدمة للفصل بين المرح المؤثم والتجهم الجدير بالثقة، بين الرفاه المذموم والكدح المبجل.

وكأن تاريخنا حقبة من الجنون الجمعي وسلسلة من العنف والفرسان الذين لا يعرفون للتصالح أو التسامح طريقًا، وسيلاحقنا هذا الولع ببيض الصفائح وبالمعارك كفخر وحيد فيما بعد، ليتحول تاريخنا الاجتماعي القريب، أو ما بعد الاحتلال الإيطالي، إلى مجرد سلسلة من المعارك المتواصلة، لا يتخللها أي تصور آخر للحياة المرحة حتى ولو كانت في ظل احتلال، وتحولت روزنامة أيامنا إلى سلسلة من الاحتفالات بالمعارك أو الملاطم، وأن العلاقة بيننا وبين المحتلين كانت لغتها الرصاص فقط، متناسين كل ما تخللها من تأثر وتأثير، ومن حياة يومية كانت تصغي للجمال والأغاني في أكثر الأوقات صعوبة، أما الأغنية التي أممها العسكريون وأصبحوا شعراء وملحنين، فاكتظت بمفردات البارود والنار والدبابة والبردم، وتحول الشعر من غزل في الأنثى إلى تغزل في الصواريخ العابرة للحدود، وأصبحت عينا الحبيبة تُشبّهان بفوهات البنادق والمدافع، وشَعرها الداكن بأرتال الجيوش الحبشية، ومشيتها بمشية الجنرال أو أمير الحرب، وحين تتربى أذهاننا الطرية على هذا التصور لمفهوم الجمال، وتقرأ تاريخًا لا سرد فيه سوى للمعارك، ولا صوت فيه سوى للرصاص والانفجارات، سيتسرب هذا اللاوعي الشامل إلى نظرتنا لصناعة المستقبل، وإلى طريقة وحيدة لإداراة خلافاتنا أو تنافسنا، ويتحول الوطن إلى مكان للغنيمة وسبي النساء عبر عقود، وسنحتفل عن وعي أو غير وعي بجلاء شك طه حسين وريبة نجيب الحصادي؛ لأن السيف أو المدفع هو الفيصل الوحيد في كل اختلاف، ويغدو الجنون والهيجان الجماعي سيلًا هادرًا يجرف الحكمة إلى وادٍ سحيق، ويغدو كل فرد بينه وبين نفسه حكيمًا وحين ينخرط في سيل من الجموع يصاب بعدوى الجنون الموقن بالنتائج دون أن يراوده شك في أي مقدمة أو أي فرضية.

وتحول الشك كآلية معرفية لتأسيس الاعتقاد بعد اختباره وفحصه، ولطرح الأسئلة حيال ما استسلم له العقل من كثرة التكرار أو نزولًا عند ضغط الإجماع، إلى مسبة في ثقافتنا أو تهمة تجديف قد تجلب الهلاك لصاحبها. في كتابه (تأملات) يبدأ ديكارت مشروعه البنائي بملاحظة صغيرة يذكر فيها أنه اتضح له أن الكثير من الآراء المسبقة التي قبلها منذ طفولته غير جديرة بالثقة؛ ولذلك من الضروري أن يقوم المرء و لو «لمرة واحدة» في حياته بتقويض كل شيء والشروع من جديد في بناء تصوراته: أو كما يرى: «لأني أرغب الآن في تكريس نفسي للبحث عن الحقيقة، اعتقدت أنه من الضروري أن أرفض كل شيء يستطيع المرء تخيل أقل شك فيه وأن أعتبره باطلًا، كي أرى ما إذا كان قد تبقى لي أي شيء أعتقد أنه بمنأى عن كل شك». أما الريبة فهي من الأساس لا تسعى إلى اليقين لأن الشك فيها يفضي إلى مزيد من الشك، ولأنها آلية مستمرة لتوليد المعرفة وطرح الأسئلة المناسبة، وليست كمينًا للقبض على الحقيقة.

* نص البيت:
"ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمِ"