Atwasat

التجويع سلاح الحروب الباردة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 ديسمبر 2023, 01:40 مساء
محمد عقيلة العمامي

الدكتور لويل بونتي (Lowell Ponte)، أحد أشهر الخبراء بالعالم في مجال تغير المناخ العالمي، وهو أيضا باحث استقصائي، عندما كان يكتب لمجلة «ريدرز دايجست» كانت مقالاته الأكثر قراءة في العالم. ومن دون الاسترسال في إمكانات هذا الكاتب المتميز، يكفيني أن أقتبس لكم فقرات من مقال كتبه منذ أكثر من أربعين عاما عنوان ترجمته "الغذاء: السلاح السري في الحرب الباردة."

يبرز المقال أن الولايات المتحدة الأميركية استخدمت الغذاء سلاحا ضد روسيا، إذ منعت تصدير القمح إلى روسيا سنة 1980 جراء غزوها أفغانستان، حيث إن الولايات المتحدة تنتج من القمح أكثر من استهلاكها له، وهي تتحكم فيما نسبته 57% من صادرات الحبوب!. ويبرز المقال أن هناك ثماني دول فقط تنتج أكثر مما تستهلك، وهي: أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين وجنوب أفريقيا وفرنسا وتايلاند، بينما كثيرة هي الأسباب وراء هجر الزراعة، لكن أبرزها ما كانت تقدمه الولايات المتحدة كمعونة مجانية للدول النامية، ولا بد أن جيلي ما زال يتذكر «النقطة الرابعة الأميركية»، ومساعدة الليبيين بالقمح المجاني عندما كنا ثالث أفقر دولة في العالم!. هذه الهبات المجانية أبعدت الناس عن زراعة ما يحتاجونه من قمح على سبيل المثال.

توقفت هذه المساعدات المجانية!، ولعل الهند أكثر دولة عانت ذلك، لذلك اتجهت إلى العمل الدؤوب بغية الاكتفاء الذاتي، وحذت الكثير من الدول حذو الهند، فزيمبابوي، حديثة الاستقلال، أنتجت محاصيل قياسية من القمح.

ومنذ العام 1972 بدا واضحا أن الغذاء أصبح سلاحا، وغيابه تسبب في مجاعات عالمية عديدة، لعل أبرزها بنغلاديش التي قضى الجوع فيها على 760 ألف إنسان، وعلى 200 ألف في إثيوبيا.

والسلاح السري لم يترك الحرب باردة، حيث خلق السوفيت أساليب أكثر برودة، ولكنها كانت تكاد تشتعل لولا معالجتها سريعا، فمثلا حدث ذلك سنة 1972 عندما دخل الروس السوق الأميركية من خلال شركات مختلفة لا تبدو في الظاهر أنها سوفيتية، واشتروا نحو ربع محصول الحبوب من الأسواق الأميركية، فانتشرت أخبار عن هذه المشتريات الضخمة، وأوحت لمضاربي الحبوب أن الطلب أكثر بكثير من العرض، وهكذا ارتفعت الأسعار في بقية السلع، من لحوم ودواجن وألبان. ولقد اكتشفت الهند أن الاتحاد السوفيتي حجز معظم القمح العالمي المعد للتصدير، فتأثرت جراء ذلك عدد من الدول، فمثلا سجلت الهند وحدها زيادة 829 ألف وفاة على ما حدث عندها في السنوات الماضية، وهذا ما تسبب في ارتفاع أسعار النفط أربع مرات في أسواق العالم.

ولعلنا نعرف أن الولايات المتحدة باعت سنة 1973 ما قيمته 21 مليار دولار من المواد الغذائية، ثم باعت سنة 1981 للعالم الكمية نفسها بما قيمته 46 مليار دولار، وبعوائد هذه المبيعات سددت نصف قيمة فواتير النفط المستوردة، وهكذا أصبح القمح، وليس البترول، السلعة الوحيدة التي تؤمن لأميركا حاجتها من النفط.

أنا انتقيت هذه المعلومات لمحاولة بائسة لنتذكر كيف كان «سكان» ليبيا، قبل اكتشاف النفط، يعتمدون تماما على زراعة الحبوب، وما زلت أذكر أن أسباب الثراء في ليبيا كانت تحدد من خلال مثل متداول يقول إنه يتحقق «يا من حرثة أو من ورثة أو من خدمة في التموين>>، حيث كان التموين حتى خمسينيات القرن الماضي هو ما تأخذه الأسر الليبية ببطاقة، التي تسمى «بطاقة القرامات>>!.

وما زلت أذكر أنه ما إن ينتهى حصاد القمح والشعير حتى تعود إلينا جدتي (عيشة) - وهي شقيقة جدتي أم أمي، واسمها «زمزم» – من قمينس محملة بالقمح والشعير واللبن والزبد و«الخرمبوش» و«كريشة الجدي»، وجميعها نباتات بعلية ربيعية. كان ذلك قبل اشتعال الحرب الباردة بنصف قرن، وقبل ظهور البترول في ليبيا لحقبة ونصف، والآن لم يعد هناك لا حرث ولا ورث، ولكن ما زال «التموين» سيد الموقف، ولكن بمسميات أخرى!.