Atwasat

الشعر الفواح (رسائل العوكلي والطويبي... احتفاء بالصداقة والشعر والجمال)

إبراهيم حميدان الخميس 30 نوفمبر 2023, 07:41 مساء
إبراهيم حميدان

قليلة هي الكتب التي تنتمي إلى أدب الرسائل في المكتبة العربية، أما المكتبة الليبية، فلربما هي نادرة، فأنا لا أستطيع أن أتذكر منها سوى كتاب سالم الكبتي "نوارس الشوق والغربة بعض من رسائل الصادق النيهوم" وهي رسائل الصادق النيهوم إلى عدد من أصدقائه الأدباء والصحفيين مثل خليفة الفاخري ورشاد الهوني وعلي الفزاني ومحمد الفيتوري وغيرهم، قام بجمعها سالم الكبتي وإصدارها في هذا الكتاب.

أيضا هناك كتاب أحمد محمد عطية "عبدالله القويري... مفكر يبدع في الأدب والفن". ولكن هذا الكتاب لم يقتصر على المراسلات فقط بين الأديب الليبي عبدالله القويري والناقد المصري أحمد محمد عطية بل تضمن أيضا قراءات نقدية للناقد أحمد محمد عطية في قصص القويري ومقالة أخرى حول تجربته المسرحية وثالثة حول الكتابات النقدية للقويري إضافة إلى حوار معه، وبالتالي قد لايندرج هذا الكتاب ضمن الكتب التي يمكن تصنيفها في إطار أدب الرسائل.

على مستوى الأدب العربي المعاصر هناك عدد قليل من الكتب في هذا السياق، من بينها كتب ضمت مراسلات اتخذت منحى العلاقات العاطفية بين هذا الأديب وتلك الأديبة، مثل الكتاب الذي ضم رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة وجاء بعنوان "رسائل جبران إلى مي زيادة"، ومراسلات الناقد المصري أنور المعداوي إلى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي قام بجمعها وتقديمها الناقد رجاء النقاش، وأيضا كتاب رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، وكذلك كتاب رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان. وقد نشرت غادة السمان الكتابين بعد وفاة كل من غسان كنفاني وأنسي الحاج، وتضمنا رسائلهما العاطفية إليها، دون رسائلها هي إلى كل منهما.

إضافة إلى هذه الكتب ذات المنحى العاطفي، هناك كتب أخرى كانت عبارة عن رسائل بين الأصدقاء كما في المراسلات التي تمت بين الروائي عبد الرحمن منيف والفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي، وصدرت في كتاب حمل عنوان " في أدب الصداقة".

كتاب رسائل الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم، وضم مراسلات الشاعرين الفلسطينيين خلال ثمانينيات القرن الماضي، وصدر عام 1990تحت عنوان "الرسائل... محمود درويش، سميح القاسم"

كتاب "أثر الطائر في الهواء" الصادر عن دار الفرجاني في 2023، ضم رسائل الشاعرين الليبيين "سالم العوكلي وعاشور الطويبي، خلال الفترة من 30يوليو 2017 وحتى 24ديسمبر 2023 وهي الفترة التي قضاها الطويبي في النرويج، ماعدا سنة 2021 التي كان الشاعر قد عاد قبلها بسنة إلى وطنه واستقر في مدينة صبراتة، وراح يراسل صديقه العوكلي من هناك.

كتاب "أثر الطائر في الهواء" هو الأول من نوعه في المكتبة الليبية، وهو يجيء في المرتبة الثانية بعد كتاب محمود درويش وسميح القاسم على مستوى المكتبة العربية في مجال كتب المراسلات بين الشعراء.
سالم العوكلي يكتب الشعر والمسرح والرواية والمقالة والنقد، صدرت له 6 دواوين شعرية وثلاث روايات إضافة إلى عناوين أخرى ضمت مقالات نقدية.
عاشور الطويبي شاعر ومترجم ورسام وطبيب صدرت له 15مجموعة شعرية ورواية واحدة و7 كتب ترجمة.

العوكلي يكتب من قرية كرسا القريبة من مدينة درنة التي كان يسيطر عليها المتطرفون الإسلاميون في تلك الفترة ويمنعونه من زيارتها، في حين يكتب الطويبي من منفاه في النرويج التي اضطر إلى اللجوء إليها بعد أن أحرقت إحدى الميليشيات بيته في قريته طويبيه غرب طرابلس.

يتضمن الكتاب مقدمة مستفيضة للشاعر والمترجم الليبي خالد مطاوع أستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ميشيغان، رصد فيها نشأة وتطور أدب الرسائل في الأدب العالمي والعربي، كما قدم قراءة نقدية تحليلية عميقة توقف خلالها عند الأبعاد الجمالية والمضامين الفكرية التي تضمنتها الرسائل محتفيا وفخورا بالأدباء الليبيين، وإنجازاتهم خلال العقدين الأخيرين، خاصة في مجال الرواية، حيث برز هشام مطر كموهبة دولية وأيضا إبراهيم الكوني وأحمد الفقيه وكذلك نجوى بن شتوان وعائشة إبراهيم ومحمد النعاس وحصدوا جوائز وحققوا نجاحات مهمة في بيئة مُحاصرة، دون أيّ دعم من النخب السياسية والاجتماعية.

تكتنز رسائل العوكلي والطويبي التي ضمها هذا الكتاب بحكم وتأملات وأشعار وآراء ونصوص شعرية للشاعرين أو مترجمة واقتباسات من قراءات وتحليلات لنصوص وأفكار وإثارة لأسئلة فكرية حول الشعر والأدب والسياسة والواقع الليبي المعقد الذي يعيشه كل منهما وينظر إليه من زاويته.

الرسائل التي كتبها الطويبي من النرويج ثرية بالنصوص الشعرية بعضها من إبداعاته وبعضها الآخر من ترجماته، يرسلها إلى العوكلي الذي يُعلّق عليها محتفيا بها، وبما تُثُيره في نفسه من مشاعر أو ذكريات أو تُحِيله على نصوص كان قد كتبها أو قرأها فنظفر نحن القراء بآراء وتأملات وحكم في الحياة والشعر فائقة العذوبة والجمال، يقول العوكلي: " نحن نرى الأشياء لكن أرواحنا هي التي تعطيها المعنى" ثم يضيف معلقا على قصائد الطويبي: "هذه المشاهد والأشياء المتناثرة في شِعرِك يمرُّ عليها الآلاف يوميا، لكنها لاتعنيهم، وتبدو خرساء أمامهم ومحايدة، وبلا معنى، لكن الشاعر والفنان عموما هو من يمكث عندها ويسمع بوحها وسيرتها، وهو من يجعلها تكتسب هذا الحضور الصاخب في القصيدة أو اللوحة أو الموسيقى".

تتضمن الرسائل أحيانا مقاطع هي أقرب إلى البوح الذي نجده في كتب السيرة الذاتية، يقول الطويبي: "طوال حياتي أعطي للمخيلة المكانة البارزة في كل شئ" ويضيف كاشفا لنا جانبا آخر من شخصية الشاعر: "ما قرأت علما من العلوم إلا تمنيت أن أكون صاحب سبق فيه. استهوتني الرياضيات، تحديدا الجبر، التفاضل والتكامل، الهندسة الفراغية. كيف يمكن للعقل إعادة صياغة الكون كله بمعادلات وأرقام ورموز؟ كتبت قصيدة تبدأ بإقليدس وتنتهي بعاشور".

وفي ذات السياق، سياق البوح الذاتي القريب من الاعتراف، يتحدث العوكلي في إحدى رسائله عن طفولته، وعن خجله في المدرسة حين كان يُجيب على أسئلة المعلم بصوت منخفض ليصل بنا إلى قراءة ذاتية لشعره: "لا أعرف سر السردية في قصائدي، وأحيانا الصوت العالي الذي بدأت به تجاربي الأولى، وربما يكون تعويضا عن ذلك الهمس الذي أضاع حقوقي".

يكتب الطويبي في رسالة يعبر فيها عن انزعاجه من ناحية لمصادرة كتاب "شمس على نوافذ مغلقة" ومن ناحية أخرى يبدي فرحه وسعادته بهؤلاء الشعراء الشباب الذين نشرت نصوصهم الشعرية والقصصية عبر ذلك الكتاب المصادر من قبل السلطات الرسمية بعد حملة شرسة تعرض لها الكتاب من قبل بعض القوى المحافظة، ويسمي الطويبي هؤلاء الشعراء الشباب "... البناءين العظام الذين يضحكون في وجه القبح". فيرد عليه العوكلي مؤكدا على كلامه: "كتابة الشعر دون توقف هي المقاومة الفاعلة للظلام والظلاميين".

يبدو الشاعران وكأنهما يدعمان بعضهما البعض عبر رسائلهما في مواجهة واقع قاس، هي حياة المنفى والغربة بالنسبة لعاشور وحياة الحصار ومناخ الحرب الأهلية بتداعياتها على الواقع الليبي المحلي بالنسبة للعوكلي، وكأنهما يرددان مع الشاعر الليبي عمر الكدي: "نتساند حتى لانقع"، فعبر هذه الرسائل المتبادلة يقابلنا إصرارهما على التمسك بالشعر والفن، من أجل ماذا؟ يقول العوكلي "لنحمي أنفسنا ".

يخاطب العوكلي صديقه في المنفى النرويجي قائلا: "شرفة عاشور المطلة على الكون عبر تلك التفاصيل التي في مرمى النظر وعبر الحواس التي تتبادل الأدوار ولاتهدأ. ترى بأذنك أحيانا، وتنصت وتلمس بعينيك، وتشم بأصابعك. ضوء من الضحك يتخلل مجازاتك واستعاراتك، ضحك إلهي يشبه ضحك السراب، أو ضحك الطفل النائم الذي يرى أحلاما من حياة سابقة، والذي نقول عنه "تضحكه الملائكة"، أو ضحك السؤال الذي يعرف مسبقا أن لا إجابة عليه".

ويكتب الطويبي معلقا على قصيدة للعوكلي كان قد أرسلها إليه: "الغابة والجبل. الزعتر والعرعر. العشبة المزهرة والشجرة السامقة. الحصاة والصخرة. الغيمة والريح. أنت لم تغادر الغابة والجبل. شعرك فواح ياسالم"

وتبدو الثقافة الموسوعية للشاعرين وهما يطرحان آراء بروح علمية معرفية في قضايا تتصل بالفلسفة والفن والموسيقا والسياسة والتاريخ والشعر الشعبي والتراث العربي والشعر العالمي إضافة إلى تحليلات تتصل بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طرأت على الواقع الليبي عقب ثورة فبراير التي حلما بها بعد عقود من العيش في ظل الديكتاتورية، فإذا بالحلم يتحول إلى كابوس، ضمن مآلات الربيع العربي.

وتتجلى في هذه الرسائل روح المحبة والصداقة الصافية بين الشاعرين التي يشيد بها خالد مطاوع في مقدمة الكتاب قائلا: "إن مراسلينا قبل أن يكتبا ذهابا وإيابا كانا قد التزما بأحد أهم متطلبات الصداقة، وهي أن يختار المرء أصدقاءه بعناية، لأن مثل هذه الكتابة تتطلب ثقةً حدسيةً واستجابةً جاهزةً لايمكن أن يقدمها إلا الأصدقاء الحقيقيون لبعضهم البعض".

ويضيف خالد: "نجد كل هذا هنا، كما نجد أيضا ميثاقاً عفوياً يرتكز على مباديء الأمانة والتسامح والتفهم وحسن النوايا المتبادَلة، وهو موقف كم أتمنى أن يجده أبناء بلادي ملهِماً لهم، يستعينون به لربط أواصر الأخوَّة في موطننا".