Atwasat

مشاهدات في أثر الدم!

سالم الهنداوي الخميس 23 نوفمبر 2023, 01:59 مساء
سالم الهنداوي

سقط الأطفالُ جميعاً في الصراخ العالي وتناثروا أشلاء فوق التراب وتحت الرُكام، لا لون آخر في الرماد الداكن برائحة البارود، ولا رسّام في الدنيا استطاع رسم الصورة الدموية التي غابت عن عيون العالم قبل عيون عدسات التصوير. وحده الخيال المفزوع في الرماد رسم الحقيقة العارية في غزّة، وترك الأثر البليغ في القلب دون أن يبرح المكان.

كان المكانُ للإنسان الأبدي قبل أن يشطب الحيوان الضخم حرفاً من حروف السكون فيه، ويُبقي النون مفتوحة كعين نسرٍ ساكنة وهي شاخصة في الموت العالي لقتلى الراجمات.. العين على السماء وقبضة اليد على الجمر.

لا هزيمة ولا انتصار في حرب الإنسان على الإنسان، فقد بدا الإنسانُ قاتلاً لأخيه في أوّل الحياة، لكنّ الحياة لم تتوقّف عند أثر ذلك الدّم واستمرّت بالقتل إلى يومنا هذا، وها هُم السّاميون يقتلون بعضهم بعضا ظنّاً منهم بأنهم يقتلون الحياة فيهم، فيما يعود الدّم إلى عروق سواهم كما الماء في جذور الشجر.. فهذه ذرّية (قابيل) بأسرها تخرج إلى العراء في يوم ضُحى، تصيح وتبكي وتقتل وتصرخ وتنهش وتنتحب وتختنق وتموت، ثم تعود إلى الحياة من جديد بأقدامٍ خائرة تطأ الأرض في خوفٍ من وحوش الأرض متحفّزة للطيران بأجنحة خرافية، لكنّها من فرط الجاذبية إلى الموت تبقى على الأرض يتيمة في حياة كُلُّها أخاديد وخنادق وقبور لمعارك الوجود لا ظافر فيها سوى الغرور الذي يقتل سواه ثم ينتحر.

كانت الجريمة كاملة على أثر الدّم في غزّة، لكنّ العالم الذي يلهو بأخبار الأحياء في سيرك العُظماء، تجاهل أثر الدّم في المذبحة العظيمة التي مزّقت جسد الطفولة الفلسطينية وكتمت أنفاس الحياة عن البوح والبُكاء، فيما الرسّام العاجز عن الرسم يسحب ألوانه الطالعة على أدراج المستشفيات حيث سقط الجرحى في الدّم وحيث فقدت الكهولة أرواحها في الأزيز.. لا بياض في المستشفيات، كُل الملاءات صارت حمراء ومعاطف الممرّضات والأطباء ورُخام الممرّات.

حتى شارع عمر المختار في غزّة صار رماداً في الهواء كما شارع صلاح الدين الأيوبي، مات كُل شهداء العرب والأكراد في فلسطين، مات عز الدين القسّام كما عبدالقادر الجزائري، والأرض المانعة تحضن الحجر على القبور، لا حياة بعد هذا الموت لبني إسرائيل ولا ذكرى في بيت المقدس لـ«أورشليم»، ولا حائط يبكيه المتطرفون اليهود على بُعد أمتارٍ من صلاة المسلمين.

في المجزرة العلنية، حتى شاهد الإثبات قتلوه عنوة وهو يصلّي للموت، وشاهدٌ آخر لم تأخذ بأقواله «الأمم المتّحدة» لأنه نجا من الموت، فيما رفع «الشاهد الصهيوني» يده عالياً مطالباً العالم بتوقيع أقصى عقوبة ضد موتى لا يستسلمون، بل ضد موتى صمدوا أمام القصف ولم يسقطوا، فتعالت أرواحهم عالياً.

هؤلاء ومن معهم من شهود الزور هُم أصحاب الفيل في العصر الأخير وهُم يتّجهون جهاراً بعد غزّة والجليل ونابلس والخليل، إلى بيت المقدس ليصدق قول الله فيهم، وفي الحين: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، ألمْ يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجّيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول».
صدق الله العظيم.