Atwasat

حروب الجغرافيا والأيديولوجيا

سالم الهنداوي الخميس 16 نوفمبر 2023, 07:04 مساء
سالم الهنداوي

.. كُل حربٍ تشتعل هُنا أو هُناك، نعتقد بأنها ستكون الأخيرة لما تحمله من الصدمة والفجيعة الماثلة والنهايات الرزيّة، فلا حياة بعدها بالمُطلَق وإن تكاسل الموتى.. بعكس "الأمل" الذي نعتقد بأنه دائماً في الصيرورة ويبعث على المزيد من التفاؤل، فاختلاف التأثير الظاهر في الحالتين يعني أن هناك فارقا كبيرا بين الوجود والعدم، بين الربح والخسارة، بين الانتصار والهزيمة، وبين الموت والحياة.

كُل حربٍ في ضراوتها تبدو هي الأخيرة، وإن كان السلام "المُحتمَل" نتيجتها، لكنّنا لا نستطيع تقدير حجم خسارتها البشرية والمادية كي ننعم حقاً بسلام يعيد ما خسرناه، فخسارة "الإنسان" وحده تظل فادحة مهما كان عدد الضحايا الذين يسقطون في كُل حرب، واحداً أو ألفاً أو مليوناً، وما قيمة إعلان السلام "الأبيض" إذا كانت البشرية في الدّم قد خسرت كُل هذه الأعداد من البشر خلال حروبٍ تاريخية طاحنة وأخرى عابرة أشعلها سياسيّون وعسكريّون طُغاة، لتكون المحصِّلة في سلام مُفخّخ يفرضه أقوياء العهد دائماً كما حصل للفلسطينيين مع إسرائيل.

في السائد عبر التاريخ تحتكم "السياسة" للغة العقل في حوار الأضداد المُباشر أو غير المُباشر عبر وسطاء محلّيين أو دوليين، بحسب حجم الأزمة والخلاف، أو حجم الحرب بينهما، فتكون حسابات الربح والخسارة ديدن تلك الحوارات للوصول إلى نتيجة ترضي طرفيّ النزاع.. لكن لا أحد من الطرفيْن باستطاعته التنازل عن غروره لكي لا يسقط سياسياً فيسقط شعبياً ويخسر قوّة العهد، فيختار الحرب سبيلاً للانتصار وإن لم يحالفه النصر، وهو الناتج السياسي الذي جعل الحربيْن العالميتيْن تطولان وتفضيان إلى تكوين "عُصبة الأمم" كمنظمة أمن دولية تأسست سنة 1920 قبل تأسيس "الأمم المتّحدة" في الأربعينيّات، وكانت جغرافيا "سايكس بيكو" آنذاك هي الخريطة التي اعتمدت الدول الأعضاء، ولتنتهي حروب دول "المحور" و"الحُلفاء" في النتيجة بيديِّ القطبين الكبيرين "الولايات المتحدة" و"الاتحاد السوفييتي" بمعسكريهما الأيديولوجييْن وخلق تحالفاتهما التاريخية الجديدة على أساس النظام الرأسمالي "الاقتصاد الحُر" والنظام الشيوعي "الاشتراكي"، ولتكون الإثنيّات الأيديولوجية الفكرية في العالم دليل أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية، يمينيّة ويساريّة، فتنقسم أوروبا إلى شرقية وغربية، وألمانيا وحدها إلى شرقية وغربية، وبين الكوريتيْن في آسيا، والصين وهونغ كونغ وتايوان، وحتى اليمن الصغير في البلاد العربية أصبح يمنيْن، وكان الاستعمار في المنطقة حينها قد دأب على تسميتها بـ "العالم العربي" لترسيخ جغرافيا الاختلاف والتبعية، فيما "القومية العربية" التي نشأت بعد نكبة فلسطين تحرص على تسميتها بـ"الوطن العربي" لمواجهة هجمة الاستلاب الثقافي من جهة، وللدفاع عن الفكر القومي العربي الذي نشأ على مباديء "العروبة" لتحرير "فلسطين" ومقاومة الاستعمار.

بعملية "بسترويكا" ميخائيل غورباتشوف مطلع التسعينيّات سقط الاتحاد السوفييتي بجغرافياته السياسية تحت التماثيل التاريخية للزعماء فلاديمير لينين وكارل ماركس، وحتى جوزيف ستالين وليونيد بريجينيف، وهُم الأهرامات والحصون التي تعاظمت وعاشت تحت ظِلالها البلشفية أنظمة أوروبا الشرقية، وحكمت بأفكارها الشيوعية أحزاباً، شرقاً وجنوباً، في آسيا وأمريكا اللاتينية، وكذلك في البلاد العربية وإن بدت ضعيفة في غياب حواضن اجتماعية فاعلة ومتفاعلة، وهي المنطقة التي كانت الأنسب اجتماعياً للتجربة الماركسية نتيجة أوضاع الفقر والجهل، غير أن أندية اليسار الثقافية ومنتدياتها السياسية ونضالها الحزبي في غير صعيد، لم تغيّر شيئاً في الواقع الذي ذهب إلى الانقلابات العسكرية كوسيلة للخلاص من الطبقة البرجوازية، لكنّ تلك المجتمعات الضعيفة في تكوينها الثقافي وجدت نفسها أسيرة أنظمة عسكرية دكتاتورية استسلمت لها ولسياساتها القمعية التي قادت المثقفين اليساريين إلى السجون وقادت الجيوش إلى الحروب، كما عملت على تعطيل حركة الفكر والتنوير لمنع التغيير، وليظل النظام السياسي القائم رهيناً لقوّة الحُكم الدكتاتورية وإن بدت في الظاهر مدنية!

لقد غادرت "الماركسية" الأرض في الحساب الأيديولوجي على قاعدة الناتج النفعي بين جُهد الآلة وجُهد الفلّاح في الأرض، وكذا بين جُهد الآلة وجُهد العامل في المصنع، فخسرت التجربة الماركسية حساباتها الأيديولوجية أمام التكنولوجيا والرقمية التي اكتسحت مباديء "البروليتاريا" كمنهج عقائدي لم يصمد طويلاً أمام فكرة الاقتصاد الحُر في "الرأسمالية" التي أنتجت الآلة والتكنولوجيا الصناعية والحداثة الرقمية حتى الذكاء الاصطناعي، وهي ذات الفكرة المضيئة التي جعلت من مُخترع مُبدع مثل "أديسون" يخترع المصباح الكهرباء ليضيء العالم، فيما اكتفى العاجز بضوء مصباح الزيت لينير الكهف بفكرة الوجود.

من المفارقات العجيبة في وطننا العربي "الواحد"، أن ينقسم اليمن إلى شمال رأسمالي ليبرالي وجنوب شيوعي بروليتاري، وكانت الحقيقة أن هذا اليمن "غير السعيد" كان يعاني الفقر في "صنعاء" تماماً كما في "عدن" وأن فكرة "المؤتمر الشعبي" الجامع أو اليمن الموحّد بقيادة "علي عبد الله صالح" لم يكن مثالياً ليحقّق كفاية العيش لليمن السعيد، والذي ظل كما كان الحُكم الشيوعي في الجنوب، أو "اليمن الأحمر" بقيادة "عبدالفتاح إسماعيل".. لقد انقسم اليمن في الستينيّات بعد هيمنة استعمارية بريطانية وسوفياتية تركت قواعدها ونفوذها وثقافتها في مفاصل الوطن العربي الذي كان يرزح بين أطماع الدُول الاستعمارية، الفرنسية والبريطانية والإيطالية، التي احتلّت أجزاء من الوطن العربي وجعلته مَداساً لجنودها وسُفرائها وشركاتها طوال تلك الحقبة الاستعمارية، ومن الأيديولوجية السياسية التي توارت بين القطبيْن بانتهاء الحرب الباردة، إلى الأيديولوجية "الدينية والعرقية" التي بدأت حروبها تشتعل في المنطقة بمقوِّمات مشروع "الفوضى الخلّاقة" باجتياز حدود "سايكس بيكو" القديمة وتنفيذ مخطط "برنارد لويس" الذي يهدف إلى تفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية، وتفتُّت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية كما حدث في لبنان والعراق وسوريا واليمن والسودان، وتشير خريطة "لويس" إلى تقسيم مصر وحدها إلى أربع دول، مسيحية في الصحراء الغربية وعاصمتها الإسكندرية، ونوبية في الجنوب، وإسلامية في الدلتا، فيما سيناء والصحراء الشرقية بضمِّها إلى "إسرائيل الكبرى" وهو الهدف الاستراتيجي.. ويشمل المخطّط السيطرة على الأماكن الغنية بالنفط والثروات الطبيعية، وهو ما تعيشه المنطقة اليوم حثيثاً بعد ثورات "الربيع العربي" بقيادة "الإخوان" والإسلام الراديكالي الذي يتغلغل ويكتسح الحدود بتنظيم "داعش" إلى جانب التنظيمات الأخرى السنّية والشيعية لضرب المسلمين بالمسلمين، وتأجيج الفتنة الخامدة بين المسيحيين والمسلمين، وبين العرب والأمازيغ، وهي من مشاريع الفوضى "السياسية والعرقية والدينية" التي تعيشها المنطقة لتحقيق "الشرق الأوسط الكبير" والحُلُم بقيام دولة "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات!

بحسب كتاب "الربيع العربي.. ثورات أم مؤامرات" للكاتب "علي كريم حسين" ورد أنه فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق "جيمى كارتر" تم وضع مشروع تفكيك الدول العربية والإسلامية من قبل المستشرق اليهودى "برنارد لويس" الذي شغل منصب مستشار وزير الدفاع الأمريكي آنذاك لشئون الشرق الأوسط، ومن أسس "التفكيك" دفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً، وكان "لويس" وقتها هو من ابتدع مبرِّرات غزو العراق، ولا تبدو أحداث غزّة الراهنة بمعزلٍ عن هذا المخطّط "الصهيوني" الكبير الذي يشي بالتغيير الديموغرافي في المنطقة باحتلال "غزّة" ووصول حُكومة "تل أبيب" إلى الحدود مع مصر!