Atwasat

الفلسفة في بنغازي (4)

سالم الكبتي الأربعاء 08 نوفمبر 2023, 02:01 مساء
سالم الكبتي

في العام 1946 حاول الفيلسوف بدوي أن يجرب الشعر وينظمه. محاولات بدرت منه أيام شبابه بعد نيله درجة الدكتوراه بعامين عن رسالته الشهيرة (الزمان الوجودي). حينها صاح طه حسين بملء الفم بأنه الآن أصبح عندنا في مصر فيلسوف. أصدر ديوانه الوحيد واليتيم بعنوان (مرآة نفسي). كانت تجربة ركيكة للغاية. ولم تنجح كما نجح في الفلسفة والبحث في الوجودية. طبعت الديوان دار الاعتماد في القاهرة وبمجرد صدوره تلقفه سيد قطب الناقد الأدبي المشهور تلك الأيام المدافع عن العقاد والمتعصب له والمختلف مع غيره. كان قطب يتابع محاولات الشباب الشعراء الذين ينظمون وينشرون أشعارهم في صحف ومجلات مصر. كان قاسيا وساخرا وحادا في الهجوم على أغلب نتاج هؤلاء. لم يجامل ولم يرحب بعكس آرائه النقدية لاحقا في آخرين من الأدباء الجدد وفي مقدمتهم نجيب محفوظ الذي أشار إليه في المرايا بأنه اليوم أسطورة وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير وتحدث عنه في أحد فصلات الكتاب باسم مستعار هو عبد الوهاب إسماعيل. لم يكن بدوي صاحب حظ عظيم لدى أسطورة النقد التي مضت على حبال المشنقة مثل حظ سيد الرواية المعاصرة في دنيا العرب وحامل نوبل.

على مدى أربع صفحات في مجلة الرسالة في عددها 674 الصادر في الثالث من يونيو 1946 عرض قطب لديوان بدوي واستهل نقده الساخر بمختارات من أبيات اقتطفها من الديوان ومباشرة قال: (أقسم بالله العظيم أن هذا الذي مر بك أيها القاريء هو من عمل الدكتور عبد الرحمن بدوي نشره بتوقيعه في كتاب مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1946 تحت عنوان مرآة نفسي. وأنني لم أكن كاذبا ولا مدعيا ولا مزورا ولم أدس شيئا على – الشاعر- لم يثبته في ديوانه وأنني لم أقصد إلى القذف في حقه ولا التشهير به بنسبة هذا الكلام إليه ولقد هممت أن أثبت هذه النصوص بالزنكوغراف لتكون شاهدي إذا خطر للنيابة العامة أن تقدمني إلى المحاكمة بتهمة القذف في حق الدكتور بدوي وتعريفها: نسبة أشياء إلى شخص بحيث لو صحت لأوجبت احتقاره بين أهل وطنه. ولست أتعمد الإساءة إلى هذا الشاب الذي نشر هذا الكلام بل الحق أنني قد أكون شديد الإعجاب إلى حد الدهش بجرأته الخارقة. إنه مدهش!)

ويواصل قطب سخريته وحدته من الديوان وصاحبه: (مدهش أن ترتفع جرأته النادرة إلى حد أن يواجه الناس بهذا الكلام وينشره في ديوان ثم لا يقدمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أن يرفضوه بل يطلع عليهم في ادعاء عريض ويقدمه إليهم بإعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال. كل هذه الفهاهة في التفكير والتعبير وكل هذه الركاكة في النظم والأداء وكل هذه الأخطاء اللغوية.. وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري وكل هذه التفاهة الصبيانية في الحس والتصور وكل هذا الإعياء حتى في النظم اللفظي.. كل هذا وينشر سنة 1946 لا سنة 1820 أيام كانت هذه لغة الوقائع المصرية ولغة جماعة من الأرمن المستعربين. إنها جرأة تستحق الإعجاب بكل تأكيد!)

وينهي قوله ونقده عن بدوي وشعره: (هذه عملة لا يجوز أن تمر فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة ولابد أن يوضع حد لهذه المساخر بأية طريقة وإذا كان القانون لا يملك مع الأسف أن يعاقب على مثل هذا الاستهتار فيجب أن يرد الناس عن أنفسهم هذا الاحتقار فما يجرؤ إنسان على نشر هذا الكلام بمثل هذا الادعاء إلا أن يحتقر نفسه أو يحتقر القراء).

وبهذا الترحيب كف بدوي عن تجربة الشعر ربما حاول في لبنان لاحقا تتبعه من بعيد في غابات بيروت في الحور والنور. لكنه لم يعد للشعر أو النظم. لم يجد نفسه فيه بعد أن قطع قطب الطريق عليه ونال منه ومن ديوانه. وحين أصدر بدوي سيرته الذاتية عام 2000 في جزئين لم يعرض إلى ذلك كلية ولم يذكره في سطور تجربته وسيرته واكتفى بالسباب واللعنات لرموز وطنه وغيرهم. غير أنه أشار إلى سخريته من شعر أحمد رفيق وأن بعض الشعراء الليبيين كانوا يأتون إليه ويجالسونه في بعض المقاهي في بنغازي ليعلمهم العروض والقافية!! وفي هذا كان الفيلسوف مدعيا وغير صادق فلم يذكر أحد من شعراء ليبيا ذلك على الإطلاق ثم إن أغلبهم كان ينشر شعره في الصحف ويشارك في الأمسيات والمناسبات الشعرية إضافة إلى إصداره لمجموعات من الدواوين. أحيانا تضل الفلسفة الطريق وتصاب بالخلط والأوهام.

في كلية الآداب في بنغازي كان لبدوي الوقت متاحا لإطلاق سخريته كما سخر منه قطب بأبيات شعرية مثل المشعلقات أو سمسميات سيد الملاح تجاه بعض زملائه المصريين من الأساتذة في أقسام أخرى وهناك أمثلة كثيرة على ذلك تتحدد في أستاذ كبير كان يرأس قسم الجغرافيا بالكلية لا يتسع المجال لذكرها هنا!

انتهت حكاية الشعر مع بدوي. فقد خسره الشعر الرديء وكسبته الفلسفة بكل تفاصيلها وانغمس فيها بالكامل ولم يعد يكتوي بنار الشعر على الإطلاق. كان درس سيد قطب له ماثلا أمام عينيه مدى الحياة وأن لم يفصح عن ذلك بالحديث أو الكتابة. غادر بدوي الشعر وغادره أيضا إلى النهاية.

ومن الصعب جدا أن يشير الفيلسوف بإعجاب إلى أحد. وكما سلف القول بدأت علاقته بليبيا بجملة مقالات سياسية بعد إعلان استقلالها، وفي يوليو 1966 كان من ضمن لجنة مناقشة رسالة الماجستير التي تقدم بها المعيد الموفد إلى القاهرة علي فهمي خشيم. كانت بعنوان (الجبائيان) وهي تتجه إلى دراسة أهل الاعتزال وشيوخهم الذين اختار منهم أبا علي وأبا هشام مثالين لذلك اللجنة ضمت الدكتور محمد عبد الهادي أبوريدة و د. إبراهيم بيومي مدكور. نوقشت الرسالة ذلك الصيف في جامعة عين شمس. أشار إليها د. بدوي بالقول: (وأني لأعلم أن هذا البحث شاق كل المشقة والحق أن الباحث قد أظهر الكثير من الجد وروح البحث وأني لأقدر ما في هذه الرسالة من مجهود طويل شاق).

كان أبوريدة في الأصل أستاذا لخشيم في بنغازي وكان يرعاه مع طلبة آخرين لمواصلة الدراسة العليا واستمر حتى نيله الدكتوراة عن الزروقية في لندن. وصار خلال الفترتين بين الماجستير والدكتوراة زميلا للدكتور بدوي في قسم الفلسفة.

وفي الكلية عبر موسمها الثقافي بدأ بدوي نشاطه العلمي بمحاضرة عامة في نوفمبر 1967 عن الحضارة العربية وكلف بتحرير مجلة كلية الآداب التي صدر عددها الأول عام 1958 برئاسة طه الحاجري ليعيدها بدوي عام 1968 بالعدد الثاني ونشر فيها العديد من المقالات العلمية إضافة إلى مقالات مهمة أخرى في مجلة الحصاد التي تصدرها شركة اسو في ليبيا وتطبع في بيروت وكان يرأس تحريرها محمد عبد الكريم الوافي الذي خسرته الفلسفة.. وفاز به التاريخ.

في رحلة الفيلسوف عبر ردهات الكلية انبهر المزيد من الطلاب به وتعلقوا بشخصيته وقلده البعض في فكره وخرج من عباءته في ليبيا كثير من الفلاسفة الصغار الذين شرعوا في خطواتهم عبر الرفض والقلق والتمرد والعبث والمنفى وعذاب سيزيف والحلاج والثورة والوجودية. وكان العالم آنذاك يسمع إلى قرع الطلاب للطبول في مايو 1968.. في ساحات باريس وعند نهر السين ومقالات لوموند وخطابات ديجول ومقاهي الجادة الخامسة قرب إيفل.