Atwasat

لماذا يكرهوننا؟!

منصور بوشناف الأحد 29 أكتوبر 2023, 12:29 مساء
منصور بوشناف

بعد أكثر من نصف قرن، عاد «إدوارد سعيد» إلى بيتهم الذي طردوا منه في القدس بفلسطين المحتلة. وقف أمام البيت (مسقط الرأس) مصحوبا بعائلته الصغيرة ومرافقيه، مترددا وتائها، ناظرا حوله، وعندما حاولت زوجته أن تطرق الباب، باب طفولته المقدسية، منعها. قالت له: نستأذن سكانه لزيارة البيت، فكرر رفضه الاستئذان والدخول كالغرباء للبيت المحتل، ليواصل تجواله حول البيت، وعبر المكان المصادر بالاحتلال والاستيطان.

كان يجلس مع أهل القدس مطولا يستمع لحكاياتهم مع الاحتلال، ويسأل كطفل يبحث عن أمه وأبيه، وعن بيتهم عبر ذاكرة أولئك الباقين تحت الاحتلال، وبدأ بعد سنوات من الكتابة وإلقاء المحاضرات باللغة الإنجليزية يحاضر في فلسطين بالعربية. لقد كان واضحا ومقنعا بالعربية كما ظل واضحا ومختلفا بالإنجليزية.

في إحدى جلساته مع نساء بسيطات في القدس، طلبن منه أن يقنع أمريكا بالتوقف عن دعم إسرائيل، وعن كره الشعب الفلسطيني والوقوف ضد حقوقه، ووجهن له السؤال الأهم: لماذا تكرهنا أمريكا والغرب عامة؟.
سؤال المقدسيات البسيطات عن أسباب كره الغرب وأمريكا الشعب الفلسطيني، ومساندة محتلي أرضه وبيته وتاريخه بكل وسائل التصفية والإبادة، كان سؤال إدوارد سعيد الأهم في مسيرته الفكرية والثقافية.. جذور هذا الموقف، بل هذه العقيدة الراسخة لدى الغرب من الشرق عامة، وفلسطين والشرق الأوسط خاصة.

أطروحة إدوارد سعيد المفارقة لما سبقها كانت «الاستشراق» الذي رسم وكرس صورة نمطية للشرق والعرب، والمسلمين خاصة، في الذاكرة الأوروبية عبر قرون من الزمن، وكل ذلك جرى عبر الفنون والآداب، عبر اللوحة والقصيدة والمسرحية، لتتوارث المخيلة الأوروبية تلك الصورة، وترسخها بالراديو والسينما، ثم التلفزيون وحتى برسوم الأطفال.

جذور تلك الصورة المرسومة للشرق كانت مشروع الاستعمار والتوسع على حساب شعوب العالم، والشرق الغني بالموارد خاصة، ليتحول ذلك الميراث وتلك الصورة إلى جذور جديدة لهذا الكره الذي تسأل عن أسبابه الفلسطينيات المقدسيات إدوارد سعيد.
الشعوب الأوروبية، وككل شعوب الأرض في مراحل قوتها وتوسعها الإمبريالي، كانت وعلى مر تاريخها تنتج آدابا وفنونا ترسم بواسطتها صورة للأرض وأهلها الغنية بالموارد والثروات، لغزوها وافتكاكها منهم.

الأوروبيون، ومنذ «هوميروس» إلى الآن، ظلوا يرسمون صورة نمطية للآخرين، وغالبا ما تكون تلك الصورة سلبية ومبررة للغزو والاحتلال والسيطرة على الموارد.
إدوارد سعيد يفكك تلك الصورة التي صارت راسخة في العقل والوجدان الأوروبي عن الشرق، ويوضح أنها لم تكن حقيقة، وكانت في غالبها زائفة، رسمت الآخر كما أرادته أن يظهر ويكون.

كل جهود إدوارد سعيد الرائدة في دراسة وتفكيك الاستشراق كانت محاولة صادقة لسؤال النساء المقدسيات عن أسباب عداء أمريكا وأوروبا لنا، وهو بالتأكيد كان سؤال إدوارد سعيد الخاص حتى قبل أن يسمعه من المقدسيات، وكان مشروعه الفكري الأهم.
الأوروبيون، وعبر تاريخ طويل من الإنتاج الفكري والفني، رسخوا صورة لليهودي المرابي والمخادع، لتشمل كل اليهود على الرغم من أن غالبية اليهود في تلك المراحل من التاريخ كانوا فقراء ومهمشين ومضطهدين في أوروبا، لكنهم كانوا المنافس والعدو المالي في أسواق أوروبا للتاجر الأوروبي الخارج من رحم الإقطاع والقليل الخبرة بالتجارة والمال.

كانت تلك الحرب قد انطلقت ضد اليهود في المرحلة «المركنتلية» كحرب تحرير للسوق من سيطرة تجار اليهود، ورسخت تلك الحرب صورة سلبية ومنفرة لذلك العدو اليهودي عبر الفنون، ولعل أبرزها كانت مسرحية شكسبير «تاجر البندقية»، ومسرحية كرستوفر مارلو «يهودي مالطا».

تلك الصورة التي رسختها الآداب والفنون الأوروبية لليهودي توجت بالهولوكوست.
الصورة التي رسمها الاستشراق للشرق وللعرب والمسلمين وعلى هذا النحو قد تتوج، وعلى يد اليهودي المطارد من أوروبا عبر العصور، وبدفع ودعم من منتجي تلك الصورة، بهولوكوست للفلسطيني وللعربي والمسلم.

الإسرائيلي اليوم يستخدم الصورة التي أنتجها الاستشراق للفلسطيني والعربي والمسلم لحرق هذا الكائن العدو بالضبط كما ظل المسلمون والعرب يستخدمون صورة اليهودي العدو التي رسمتها المركنتلية الأوروبية.
الاستشراق الذي فتح به إدوارد سعيد أبوابا جديدة مختلفة ومناقضة لكل من سبقه ربما، بل ظل، أفضل محاولة للإجابة عن سؤال تلكن المقدسيات: «لماذا تكرهنا أوروبا وأمريكا؟».