Atwasat

بمن عصفت يا دانيال

رمضان المصراتي الأربعاء 04 أكتوبر 2023, 04:49 مساء
رمضان المصراتي

في حضرة ذلك الوادي المهيب المخضر كسندس النعيم وجباله الملهمة وقطوف الثمار الناضجة في كنف المدينة الحانية المغتالة الممزقة التي لم يبق منها سوى أطلال لياليها المقمرة الراكسة في عمق الذكريات تعزف أوركسترا لحن الموت وتتسلل تلك الصور إلى أعماقي وموجة هواء ونسيم عليل معطر بياسمين كان هنا.

ابتسامات بريء وإيماءات عذراء خجولة... ثم يختال طيف أمي في محيط ذلك الوادي المهيب يستدعي بذاكرته أياماً كانت البهجة فيها تخترق أبواب الكآبة المؤصدة لترسم إشراقة جميلة على عتبة تلك المدينة الحانية وعلى تضاريسها التي أشبه بإحدى لوحات بيكاسو وعلى شجو أنغام أشبه بموسيقى موزارت عندما كنا نزور درنة في كل مرة... تتبختر بخطواتها كأنها ترقص التانقو... مجتاحة أحلام ليلة موجعة كان نهارها محفوفاً ومتخماً بالحزن والتعب والعناء والألم ها هي تزور منامى وتجتاحني كما فعل دانيال بمدينة الياسمين... تقض مضجعي تلك الأحلام محملة بكوابيس ومعاناة يوم حافل بالبحث في جثث وأشلاء ممزقة تتصدره رائحة الموت التي تبعث من كل مكان وفي حالة مزرية من الحزن الذي يعصف بكياني والدموع التي تذرف مع خنقة في حلقي تتخللها عبرات أشبه بزفير الموت عن الأحباب عن أختي وأولادها وزوجها وعن أخوالي وأبناء عمومة أمي من آل بوزيد السفطية وآل الحصادي وكل الأقارب والأحباب والأصحاب.

وفي سيل من جثث أطفال صغار وفتايات لم يبلغلو أغلبهم الحلم كأنهم قد قدموا بشكل جماعي قرابين لذلك الإعصار... ترتسم الابتسامة على وجوههم وكأنهم نائمون برغم ذلك الطمي والطين الذي يغمرهم... صورة أمي وهي تكرر سؤالها عن شقيقتي الصغرة وابنتيها اللتين لم تبلغا الحلم وابنها الشاب وزوجها وأقاربها ومن تبقى من الأحباب، كررت أمي سؤالها لي وهي تتساءل وتحاصرني في حلمي عن مدينة الحلم وأنا مقطع الأوصال مثل ما فعل إعصار دانيال بمدينة أمي وقطَّع أوصالها.

أرى أمي الآن تقف عند أعتاب ذلك الوادي تقترب وعلى مسافة من من حافة ذلك السد المدمر تمتد تلك المساحة التي جرفت منها المباني والمنازل ومعها جرفت تلك المنازل والشوارع العتيقة الفنار والسوق وشارع الحشيشة والأسطى عمر وشارع البحر والصحابة الذين غادرت رفاتهم المباركة مودعة مدينة الحلم والياسمين ولم يترك حتى ما تبقى من ذكريات الذين كانوا يمرون من هنا وجرف الإعصار ما تبقى من رائعين يشكلون ما تبقى من عبقرية عرف عنها الأصالة والمروءة والحكمة والمعرفة مثل فسيفساء أثرية تاريخية فيها عبق الماضي الجميل وكل أثر أصيل جرفت درنة التاريخ والأصالة وروح الياسمين وجرف كل ما تبقى من ماضٍ جميل وحاضر ومستقبل معك يا مدينة الياسمين أنت يا مسقط رأس أمي وكل الرائعين من غادروك وها أنا أودع من تبقى منهم دون وداع على تلك الصخرة من المرتفع التي ساندتني كي لا أقع من ضفة درنة المقطعة الأوصال أنظر وأنتظر في قلة رجاء واستحالة عودة من غادروا وسحابة تمطرني.

أتوجه إلى الله العلي القدير بأن يتقبلهم من الشهداء. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون.