Atwasat

درنة مرة أخرى

جمعة بوكليب الأربعاء 27 سبتمبر 2023, 12:56 مساء
جمعة بوكليب

حين أقلعت رحلة طائرة شركة (easyJet) من مطار برلين بألمانيا، مساء الأحد الماضي، قاصدة العاصمة البريطانية- لندن، كانت كل المؤشرات تؤكد أن الرحلة اعتيادية، لا تختلف عما سبقتها من رحلات جوية حدثت ذلك اليوم، أو في الأيام الماضية.

ولحسن الحظ، كانت الرحلة وفق التوقعات: هادئة وهانئة. ولم يرَ المسافرون على متنها ما يثير قلقهم أو خوفهم، أو ما يوقظ ريبتهم وقد يستدعي هلعهم. لكن ما لم يتوقعه المسافرون أن يتم التوسل إلى تعاطفهم الإنساني، وهم على بعُد آلاف الأميال من كارثة إنسانية، وقعت منذ أسبوعين في بلدة ليبية، تتموضع في بقعة ساحلية صغيرة، لم يسمع أكثرهم بها من قبل، اسمها درنة.

ليس سراً القول، إن الصراع بين الخير والشر في الحياة لا يتوقف، ولا ينتهي إلا بانتهاء الحياة الإنسانية. والخيّرون من البشر، على قلتهم واختلافهم، حافظوا على مر التاريخ، على رجحان كفة الخير في الصراع ضد الشر، حتى في أحلك المراحل وأشدّها قسوة في التاريخ الإنساني. فالخير أحياناً، في هول المعركة ضد الشر، قد يتراجع قليلاً تكتيكياً، لكنه، كما أبانت التجارب والأحداث، لا يُهزم. إذ سرعان ما يَكِرُّ مهاجماً على العدو، ويضطره إلى الانسحاب.

وفي مدينة درنة الليبية، امتُحنَ الخيّرون من الليبيين، وامتُحن غيرهم من حاملي الجنسيات الأخرى. وكان من الطبيعي أن يتنادوا من كل مكان، وأن يهرعوا بالمؤن وبالمساعدات بكل الوسائل إلى نجدة أهل تلك البلدة الغريقة في البحر، والمطمورة تحت الأنقاض. لكن الخيّرين، للأسف، ليسوا وحدهم من سارعوا إلى نجدة مدينة درنة.

كان هناك أيضاً الانتهازيون، ولم يغب اللصوص بالطبع. وفي الوقت الذي كانت فيه فرق الإنقاذ تنقّب في الأنقاض وفي البحر بحثاً عن مفقودين، كان آخرون، في جهات أخرى، ينقّبون بحثاً عن أموال يسرقونها، أو غنائم يستحوذون عليها. وكان الاستغلاليون حاضرين كذلك. سعر المتر من قماش الكفن ارتفع في ساعات ثلاثة أضعاف.

هؤلاء الأخيرون يطلق عليهم اسم فئة أغنياء الكوارث، وهم لا يختلفون عن فئة أغنياء الحروب. لكنهم قليلون ومعروفون ومكروهون.

وعلى متن رحلة تلك الطائرة المذكورة أعلاه، القاصدة لندن، حضرتْ مدينة درنة المنكوبة فجأة ومن دون توقع. إذ فوجيء المسافرون بكابتن الطائرة يتحدث إليهم عبر مكبر صوت عن كارثة، حلت بمدينة ليبية اسمها درنة. ونقل إليهم ما شاهده من صور ماسأوية على شاشات القنوات التلفزيونية، وذكرهم بمشاهد مئات العائلات وقد أخذتهم السيول وهم داخل بيوتهم إلى البحر. وتوسل إلى تعاطفهم الإنساني بطلب التبرع بما يستطيعون لمساعدة الأطفال اليتامى، والنسوة الثكلي، وإلى المشردين والناجين.

وبالفعل، استجاب المسافرون للنداء الإنساني بسخاء. وتنقلت المضيفات بينهم يجمعن التبرعات. وأنا في هذه السطور أنقل ما رواه لي صديق عزيز، كان من ضمن المسافرين على متن تلك الرحلة. وصف صديقي المشهد بتفاصيله، وقال إنه كان على وشك البكاء، من فرط تأثره بالبادرة الإنسانية النبيلة التي لو لم تحدث أمامه، لما كان سهلاً عليه تصديقها. وبدوري أحببت أن أشارككم إياها، كونها تجسيداً للنبل الإنساني، وانتصاراً للخير وللخيّرين في كل مكان على وجه الأرض.


الخير في الإنسان، ممثلاً في أحد أوجهه العديدة، في التعاطف والتراحم مع بني جنسه من البشر، لا يعرف حدوداً، وقادر على قهر كل الحواجز والعوائق. وأمامه تتراجع العقائد الدينية والسياسية، وتنكمش الفروقات اللغوية والعرقية واللونية، ويخلو الجو للقلب الإنساني، لكي ينبض بقوة، ويمد أواصر الود والتراحم والتعاطف إلى أقصى جهات الأرض، وأكثرها احتياجاً للدعم والمساندة والحب.