Atwasat

ليبيا... شعب أم أمة؟

خالد العيساوي الإثنين 25 سبتمبر 2023, 06:49 مساء
خالد العيساوي

توطئة للموضوع

إن ما سيتم طرحه في هذه الورقة أمر بالغ الأهمية، وهو في الوقت ذاته أمر ذو حساسية عالية ومفرطة؛ لأنه يمس كل شرائح المجتمع من جهة، ولأنه يمكن أن يكون نقطة يلتقي عندها الفرقاء، أو مفترقًا يشتت الوحدة الواحدة ويمزق النسيج المتماسك، ولذلك ينبغي التعاطي معه بكثير من العقلانية، دون تحيز أو تعصب.

وحتى لا ننزلق إلى دائرة الاختصام، ولا يمارس بعضنا على بعض عنفًا لغويًا، أو تنمرًا اجتماعيًا، أو مصادرة فكرية، فإننا سنطرح أفكار هذه الورقة على بساط أحمدي منسوج بالمقصد النبيل، ومطرز بالكلمة الطيبة، ثم نوشحه بوشاح الموضوعية، ذلك أن هذه الأفكار تظل مجرد وجهة نظر يرى صاحبها أنها تحمل الكثير من الصواب، ولذلك فهو يتمسك بها ويطرحها على نخبة القوم، على أنه لا يرى أي غضاضة في التخلي عنها إذا ما ثبت عنده أن الصواب لم يكن حليفها.

الإشكال المطروح

ما أثارني في الآونة الأخيرة هو استخدام بعض السياسيين مصطلح (الأمة الليبية) عوضًا عن مصطلح (الشعب الليبي)، ودون الخوض في المغزى من استخدام هذا المصطلح الآن تحديدًا، فنحن نفترض حسن النية من الجميع، فإننا نود أن نسبر أغوار هذين المصطلحين في عجالة غير مخلة، وإطالة غير مملة، دون أن نتجاوز حدودنا المعرفية وندخل في مجال ليس بمجالنا، ولكن بما نعتقد أنه يخدم الحالة الليبية الراهنة، تلك الحالة التي تستلزم الكثير من الحذر في التعامل معها، لما تمر به من تعقيدات، وما يكتنف خيوطها من تشابكات.

إن الأمة في أيسر تعريفاتها هي: «مجموعة من الناس يرتبطون بروابط توحدهم مثل الدين واللغة والأصل والتاريخ»، أما الشعب فهو: «مجموعة من الأفراد يقيمون على أرض الدولة التي تجمعهم، ويرتبطون بها برابط قانوني هو الجنسية، ويخضعون لسلطتها السياسية... وقد تتوافر لهذه المجموعة روابط أخرى كالدين واللغة والعرق وغير ذلك».

ما يسترعي انتباهنا هنا هو أن أبرز مقوم يميز بين الشعب والأمة هو البعد المكاني؛ فالمكان (الدولة) هو عنصر جد مهم لما يسمى (شعب)؛ إذ لا شعب بلا دولة إلا إذا كان منزوع الأرض، أما (الأمة) فغالبًا ما تمتد في كثير من الدول، ولا دليل على صحة هذا الكلام أقوى من انتشار الأمة العربية والأمة الإسلامية والأمة الأمازيغية وأمة الغجر وأمة الهنود الحمر وأمة الأكراد وغيرها من الأمم في بلدان متعددة.

إن السياسي وهو يتعاطى موضوع السياسة، إنما يؤطر أفعاله بإطار البلد (الدولة) الذي يحيا فيه، فأفعاله وأفكاره موجهة بالدرجة الأولى إلى أبناء هذا البلد الذي ينتمي إليه سياسيًا ويحمل جنسيته ويمتثل لقانونه، ذلك أنه لا يمكن له أن يحكم أو يمارس السياسة في بلد آخر لا يحمل جنسيته بداعي أن مجموعة من أفراد أمته موجودون فيه، ومن هنا فإن خطابه ينبغي أن يكون موجهًا لكل أفراد هذا البلد الذين هم في حقيقة الأمر شعب وليسوا أمة واحدة.

إن الشعب يمكن أن يكون جزءًا من فضاء أكبر هو فضاء الأمة، لكن الأمة لا تكون جزءًا من فضاء أكبر منها، فقد سمعنا عن شعوب كثيرة تنتمي إلى أمة واحدة، لكننا لم نسمع عن أمم تنتمي إلى فضاء آخر يجمعها جميعًا، ولذلك فإننا إذا قلنا (الشعب الليبي) فإننا نقر ونعترف ضمنًا أن هذا الشعب ينتمي إلى أمة أخرى كالعربية أو الأمازيغية أو الإسلامية، أما إذا استعملنا مصطلح (الأمة الليبية) فإننا نقطع هذا المكون عن فضاءاته الكبيرة التي ينتمي إليها، إذ لا توجد أمة تنتمي إلى أمة أخرى، فلا يمكن القول مثلا إن الأمة الليبية هي جزء من الأمة العربية، أو إن الأمة الليبية تنتمي إلى الأمة الإسلامية.

هناك من يذهب بعيدًا في التاريخ ويقول إن الأمة الليبية موجودة منذ القدم وضاربة في أعماق التاريخ وإن عمرها يتجاوز السبعة آلاف عام، نحن لا ننكر هذا التاريخ بل نفتخر به، ولكننا إذا ذهبنا في هذا الاتجاه وقلنا إن الأمة الليبية هي سلالة أولئك الذين وصلت إلينا حضارتهم منذ أكثر من سبعة آلاف عام فإننا بذلك نقصي العرب جميعًا، إذ توافد العرب على ليبيا بعد الفتوحات الإسلامية، بل نقصي من كانت أصولهم كرغلية أو تركية أو غيرهم، وهذا لعمري أمر غاية في الخطورة، ومنزلق وعر ينبغي التنبه إليه.

ولذلك فإن إثارة هذا المصطلح (الأمة الليبية) الآن تحديدًا في بيئة لم تكن معتادة عليه من قبل، أمر من شأنه أن يحفز ذهن المواطن العادي ويبعث فيه مجموعة من التساؤلات المشروعة من مثل: ما هي الأمة؟ وما الفرق بينها وبين الشعب؟ ولماذا يقال الشعب الليبي أو الأمة الليبية؟ لتقوده هذه الأسئلة بعد ذلك إلى السؤال المهم وهو: إلى أي أمة أنتمي أنا؟ لنجد أنفسنا أمام انتماءات عديدة لأبناء الشعب الواحد، فهذا عربي، وهذا أمازيغي، وهذا شركسي، وهذا من التبو، وهذا من الطوارق... وهكذا، لينحاز كل واحد بعد ذلك إلى أمته التي سيراها أجدر من غيرها بكل شيء، منسلا من النسيج الاجتماعي الجامع وهو الشعب.

إن الخيط الرفيع الذي يجمع حبيبات هذا العقد، والقوة الخارقة التي تؤلف بين أحجار هذه الفسيفساء، يكمن في رأينا في مفهوم الدولة وما يأتي بعده من مفاهيم أخرى كمفهوم الشعب ومفهوم المواطنة، فالمواطن ينتمي إلى هذا الشعب، وهذا الشعب يستظل بظل الدولة، والسياسي جاء لخدمة هؤلاء جماعات وفرادى، بمعنى أنه يخدم الدولة في شخصيتها الاعتبارية، والشعب في عمومه وبمختلف أطيافه وانتماءاته، والفرد لأنه اللبنة الأساس لكل هذه المفاهيم، فلا دولة بلا شعب، ولا شعب بلا مواطن.

ماذا يترتب عن إثارة مصطلح (الأمة الليبية)؟

يترتب على ذلك ما أشرنا إليه سابقًا، فكل فرد سيبحث له عن أمة ينتمي إليها ليشعر من خلالها بأنه الأجدر والأفضل والأولى بمقدرات هذا البلد، بل ربما يدفعه ذلك إلى الشعور بأنه الأحق بهذه الأرض وغيره دخيل عليها، أما شعور الانتماء إلى (الشعب) فلن يمنحه هذا الشعور بالتميز، وسيجعل منه فردًا مساويًا لأي فرد آخر من أبناء الشعب، حتى ذلك الذي تحصل على الجنسية صباح هذا اليوم، ومن طبيعة البشر حب التميز والظهور، وهذا أمر لو حدث، لا قدر الله، فمن شأنه أن يقود البلد إلى سلوك عنصري لا تحمد عقباه، بل إنه يمثل هاوية سحيقة لها مهبط معلوم، أما مصعدها ومخرجها فمجهول مجهول.

إن البعد المكاني قادر على أن يشكل قوة جامعة كبيرة تضم كل الأفراد القاطنين به بغض النظر عن اختلاف أصولهم وأعراقهم وحتى أديانهم، فاللبناني يدافع عن (لبنان البلد) سواء أكان عربيًا أم غير عربي، مسلمًا أم غير مسلم، لكن اللبناني يقاتل اللبناني حين تصبح لغة الكلام ترتكز على أساس عرقي، فتبرز أمة عربية ضد أمة فينقية، وأمة مسلمة أمام أمة مسيحية وهكذا، لأنهم تركوا جانبًا العنصر الذي يجمع بينهم وهو المكان (لبنان) وما يقتضيه هذا المكان من وجود كتلة بشرية واحدة اسمها (شعب) بغض النظر عن انتماءات أفرادها المختلفة والمتباينة.

هل يعني ذلك التنصل من الانتماء إلى الأمة؟

الجواب قطعًا لا؛ فأنا عربي أو أمازيغي أو كرغلي أو شركسي أو طارقي أو تباوي أعتز بأصلي وبقومي الذين أنتمي إليهم، لكنني في الوقت ذاته ليبي يجمعني مكان واحد اسمه (ليبيا) مع بقية إخوتي، وهذا المكان له سياج سياسي يسمى (دولة)، وهذه الدولة لها (شعب) متنوع الأعراق، وأنا فرد من أفراد هذا الشعب، ومواطن من مواطني هذه الدولة.

إن علاقة الفرد داخل بلده بأمته علاقة متداخلة، فهو من جهة ينتمي إلى هذا الشعب فهو (ليبي)، ومن جهة أخرى ينتمي إلى هذه الأمة أو تلك، ومن هنا فإن مفهوم الشعب أوسع من مفهوم الأمة من جهة كون الشعب يتكون من مجموعة من الأعراق والأمم، وهو أيضًا أضيق من مفهوم الأمة من حيث كونه محكومًا بمكان محدد اسمه (الدولة) في حين أن الأمة ينتشر أبناؤها في أكثر من دولة من حيث المفهوم السياسي للدولة.

هل هناك تضارب بين علاقة الفرد (المواطن) بشعبه وعلاقته بأمته؟

هنا يقع الإشكال عند كثير من الناس، حين يظن أن العلاقة تنافسية وليست تكاملية، فالفرد (المواطن) لا ينبغي له أن يفاضل بين العلاقتين، بل ينبغي عليه أن يرى ويعتقد أن العلاقتين متكاملتان، فهذه تخدم تلك والعكس صحيح، كما أن علاقة الفرد من حيث كونه مواطنًا في هذا الشعب ينبغي ألا تنحصر في علاقته بالأمة التي ينتمي إليها هو فقط، بل يجب أن تكون منفتحة على الأمة التي ينتمي إليها أي فرد آخر من أبناء شعبه الواحد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن علاقتي بشعبي لا يجب أن تضر أمتي، وعلاقتي بأمتي لا يجب أن تضر شعبي، بل إن علاقتي بشعبي وبأمتي لا يجب أن تضر تلك الأمة التي لا أنتمي إليها أنا وينتمي إليها فرد آخر من أفراد شعبي، وبذلك أضمن التعايش داخل الشعب الواحد، وحسن العلاقة مع هذا الكم الهائل من الأمم التي ينتمي إليها أبناء شعبي.

رؤية واستشراف في أسطر قليلة

ولذلك فإن الحالة الليبية تستدعي إنشاء علاقات تكامل مع أمم كثيرة مثل العرب والأمازيغ والطوارق والتبو والترك وغيرهم، من خلال المؤسسات الرسمية والمؤسسات الأهلية، وهو ما يضمن استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا تقوى به الدولة، حتى تجد لها مكانة مرموقة بين الدول، كل ذلك بسبب اعتمادها على (الشعب) الذي هو ركيزتها وسندها، هذا الشعب الذي تزينه ألوان متعددة، وتثريه أعراق مختلفة، وهنا يكون التنوع ميزة لا عيبًا.