Atwasat

الحكم بموت المفقود - بين الشريعة والقانون (ورقة قصيرة)

علي المجبري الأحد 24 سبتمبر 2023, 08:00 مساء
علي المجبري

يعرَّف المفقود بأنه كل حيّ انقطعت أخباره، ولا يُعرف مكانه، ولا يعرف أهو حيٌّ أو ميت. فهو حيّ خفيُّ الأثر، لا تعلم له حياة ولا موت بسبب انقطاع خبره.

وكل مفقود يستمر فقده يحكم بموته، وهذا الموت الحُكميّ هو موتٌ افتراضيّ وليس موتاً حقيقياً. وقد قسّم الفقه الإسلامي هذا النوع من الموت إلى نوعين هما (موت المفقود) و(موت المعيّة). 
وقد اختلفت المذاهب الفقهية بشأن المدة التي يجري فيها الحكم باعتبار المفقود ميتاً.

فالمذهب المالكي الذي تأخذ به ليبيا في الغالب الأعمّ يذهب إلى أن المدة التي يحكم القاضي بعد مرورها بوفاة المفقود هي أربع سنين، غير أنه لا يرى تقسيم ماله حتي يبلغ من العمر زمناً لا يعيش إلى مثله غالباً وقد حدده بعض المالكية بسبعين عاماً، وقالوا ثمانون، وقالوا تسعون، وقالوا مئة حتى إن من بينهم من قال مئةٌ وعشرون عاماً.

فقد رُوِيَ عن الإمام مالك أنه قال: أربع سنين لأن عمر رضي الله عنه قال: أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً ثم تحل. (أخرجه البخاري والشافعي).
وقد توافق الأئمة الأربعة وغيرهم من كبار الفقهاء في ثلاثة أركان تتصل بالمدة التي يُحكم خلالها بموت المفقود:

فأولها المدة؛ وهو الاعتداد بالعمر الطبيعي الذي يعيشه أقران المفقود ويراها البعض سبعين عاماً ويصل بها البعض حتى المئة أو يزيد. 

وثانيها أن يوكل الأمر إلى الحاكم (البرلمان في هذا العصر)؛ الذي له أن يحدد المدة التي يُحكم خلالها بموت المفقود. 

وثالثها التفرقة بين المفقود في ظروف يغلب فيها الهلاك كساحة المعركة وغرق السفينة وظروف لا يغلب فيها الهلاك كالسفر لطلب العلم أو المال أو السياحة؛ كما يرى الحنابلة. 

وقد اتفق الأئمة الأربعة، في هذا الركن (الثالث)، على أن المفقود في ظروفٍ يغلب فيها الهلاك تكون المدة المحددة لإعلان موته قصيرةً مقارنة مع الآخر الذي يُفقد في ظروف لا يغلب فيها الهلاك، بسبب رجحان موت الأول ورجحان حياة الآخر.

أما النوع الثاني من الموت الحُكمي فهو (موت المعيّة) وهو مصطلح يطلق للتعبير عن «مجموعة من الأشخاص يموتون في وقتٍ واحدٍ أو في زمنٍ متقاربٍ إلى حدٍ لا يمكن معه تمييز المتقدم والمتأخر منهم في الموت، كمن يموتون بسبب الكوارث الطبيعية، أو في حالة سقوط طائرة، أو بسبب هدم أو غرق». وقد فرّقت بعض القوانين العربية بينه وبين (موت المفقود).

فبالرغم من أن هذه القوانين اتفقت على الأخذ بالركن الفقهي الذي يقول بضرورة التفرقة بين المفقود في ظروفٍ يغلب فيها الهلاك والمفقود في ظروفٍ تغلب فيها الحياة، إلا أن أحكام هذه القوانين تباينت بشأن المدة التي يجري فيها الحكم باعتبار المفقود ميتاً في حالتيّ (موت المفقود) و(موت المَعيّة) وقد أوردتها هذه القوانين ضمن مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بإنهاء شخصية الإنسان وفقاً للقانون.

فينص التشريع الليبي على أن (يسري في شأن المفقود والغائب الأحكام المقررة في قوانين خاصة فإن لم توجد فأحكام الشريعة الإسلامية)، وقد عرَّف الغائب بأنه (هو الشخص الذي لا يُعرف موطنه ولا محل إقامته) وعرَّف المفقود بأنه (هو الغائب الذي لا يُعرف حياته من مماته). وتثبت وفاة الغائب والمفقود ببلوغه مدة التعمير وهي سبعون سنة عند المالكية. ويعتبر القانون الليبي المفقود ميتاً بانقضاء أربع سنين بعد البحث عنه والعجز عن معرفة خبره. ويؤيده في ذلك القانون المصري والعراقي والأردني واليمني وغيرها التي تتفق معه في مسألة الحكم بـ(موت المفقود) إذا مرت أربع سنوات على إعلان فقده. 

إلا أن هذه القوانين تختلف في تحديد المدة التي يُحكم فيها بـ(موت المعية)، إذا فُقِد في ظروف يغلب معها افتراض هلاكه كالكوارث وسقوط الطائرة وغرق السفينة فقد حددها القانون العراقي بمرور سنتين على إعلان فقده وكذلك القانون الفرنسي الذي يعتبر مصدراً لكثير من القوانين العربية. بينما يحكم القانون الأردني بموته بعد سنة واحدة من فقده إذا كان فقده إثر كارثة كزلزال أو غارة جوية أو في حالة اضطراب الأمن وحدوث الفوضى وما شابه ذلك. كما فرّق القانون المصري بين ثلاث حالات من موت المعيّة؛ فيُحكم بموت المفقود إذا كان على ظهر سفينة غرقت أو طائرة سقطت بعد مرور (15) خمسة عشر يوماً من تاريخ فقده وعدم العثور عليه، كما يُحكم بموته بعد سنة واحدة من تاريخ فقده في العمليات العسكرية.

وتتفق العديد من القوانين العربية على أنه بعد الحكم بموت المفقود بنوعيه تعتد زوجته عدة الوفاة وتقسم تركته بين ورثته الموجودين وقت الحكم.

وفي الختام، وبعد مرور أكثر من ألف ومائتي عام على وفاة الأئمة الأربعة، هل يمكن للتطور العلمي الكبير وخاصة في مجالات التواصل الاجتماعي والمواصلات والاتصالات والتقنية أن يقرّب المدة التي يحكم فيها بموت المفقود؟ 

سؤالٌ قد يجيب عليه يوما الفقهاءُ والمشرِّعون.