Atwasat

الأزمات السياسية.. بين الحلول الناجعة والإدارة الخادعة

خالد العيساوي الخميس 14 سبتمبر 2023, 07:23 مساء
خالد العيساوي

بعيدا عن الحديث عن مفهوم الأزمات وخصائصها وأنواعها، ودخولا في موضوع هذه المقالة بشكل مباشر، حتى لا تطول أكثر مما ينبغي، في عالم بات أكثر مثقفيه يسألونك عن زبدة الكتاب أو المقالة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة. ناهيك عن مشقة البحث، فالمقصود بالأزمة السياسية هنا تلك الحالة التي عبثت بالمشهد السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو الثقافي لمجتمع ما، ثم امتد زمنها، حتى صارت مشكلة قائمة لا ينكر وجودها لا من يعانيها ولا من هو مستفيد من حدوثها.

وما ترمي إليه هذه المقالة هو التحفيز على مراقبة سلوك الناس، والتفكرُ في كيفية تعاملهم مع هذا النوع من الأزمات، إذ لا يعنيها الحديث عن الأزمات في ذاتها بقدر ما تركز على كيفية تعاطي الناس معها، الأمر الذي يبين للملاحظ طريقةَ تفكير الناس تجاه هذا الأزمات من جهة، والنهاية التي يمكن أن تؤول إليها الأزمات من جهة أخرى.

ولعل من أتيحت له فرصة العمل في الحقلين الأكاديمي والسياسي يكون أقدر من غيره على إيجاد تشخيص يقترب من الواقعية والدقة لكيفية تعامل الكثير من الناس مع الأزمات، فالعمل الأكاديمي يجعل صاحبه يفكر بشكل أكاديمي، والعمل في السياسة يجعل صاحبه بشكل أو بآخر يفكر بطريقة دبلوماسية، وهناك بون كبير بين هذين النمطين من التفكير، فالأكاديمي يحاول بكل ما أوتي من خبرات أن يجد حلا للمشكلة (الأزمة)، لأنه اعتاد في بحوثه على طرح الإشكالات، واقتراح الحلول الناجعة لها، بينما السياسي يسعى جاهدا لإدارة الإشكال (الأزمة) بغية الاستفادة من الحالة الراهنة، وتطويعها لمصلحته، ولا شك أن الهدفين مختلفان، بل متضاربان. إن العقلية الأكاديمية تتعامل مع الأزمة بغية إنهائها والقضاء عليها، بينما العقلية السياسية تتعامل مع الأزمة بغية الاستفادة منها، وتحقيق المكاسب من ورائها، ولذلك فالعقليتان مختلفتان جدا.

ومن خلال هذه الخبرة، التي يمكن أن يكتسبها مَن عَمِلَ في هذين الحقلين، ربما يصير ممتلكا زاوية رؤية مختلفة، زاوية رؤية يستطيع الراصد من خلالها أن يرى الناس وهم يتخبطون بين مبدأ حل الإشكالات ومبدأ الاستفادة منها، ونقول «يتخبطون»، لأن التمسك بأحد هذين المبدأين بشكل دائم هو نوع من التخشب الذي لا ينتج حلا لصاحب العقلية الأكاديمية. كما أنه صنف من النفعية مقيت، يشي بأن صاحب هذه العقلية السياسية غير مؤهل لتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعه.

ولكن لماذا نقول هذا الكلام؟ لماذا نزعم أن الأكاديمي متصلب التفكير، وندعي أن السياسي براغماتي المنهج؟، لأن الشخص الأكاديمي التفكير وضع نفسه في قالب نظري مثالي غير واقعي، وذلك حين أصر على حل إشكال يرفض الكثيرون حله أو لا تسمح الظروف الراهنة بحله، فظل بفكره هذا معزولا عن الواقع، بل إنه عزل نفسه عما حوله وعمن حوله من خلال طرحه حلولا وردية نرجسية في عالم تحكمه الغيلان. أما الشخص السياسي التفكير فهو براغماتي، لأنه لا يتمتع بالمسؤولية الأخلاقية المنوطة به؛ إذ عمل جاهدا على إطالة عمر الأزمة بهدف الاستفادة منها، وجني المكاسب من ورائها، صاعدا على أكتاف المتضررين منها، خائنا من جعلوه في مقام المسؤولية، ليتحول إلى إنسان لاهث وراء مصالحه الخاصة، وإن على حساب معاناة غيره من البائسين.

ما المشورة إذن؟ المشورة تكمن في رأينا في المزج بين هذين النمطين من التفكير، المشورة أن يكون المرء أكاديميا سياسيا في آن واحد، فيجمع حسنتي هذا التفكير وذاك، ويترك سيئتي هذا التفكير وذاك، وذلك بأن يتحلى بأخلاقيات الأكاديمي وذكاء السياسي، وأن يتخلى عن صرامة التفكير الأكاديمي وعن نفعية النهج السياسي، فلا يحلق في سماء الحلم المنقطع عن الواقع، ولا يسبح في مستنقع المصالح الذاتية دون خُلُقٍ رادع.

إن عقليةً تجمع بين التفكير الأكاديمي والتفكير السياسي ينبغي لها أن تنطلق، في رأينا، من فكرة مفادها أن الأزمة القائمة ينبغي التعامل معها بمبدأ التخفيف من أضرارها حتى القضاء عليها كلية أو على ما يمكن القضاء عليه منها، ثم التعاطي مع ما تبقى منها من باب «مكره أخوك لا بطل»، فهي كالمرض تماما، إن استطعت القضاء عليه فذلك المبتغى، وإن لم تستطع فخفف قدر الإمكان من وطأته، وتعايش مع ما تبقى منه. أما النظر إلى هذه الأزمة بلونين اثنين لا ثالث لهما، إما الأبيض وإما الأسود، فذلك هو التخشب الذي يجب على صاحب التفكير الأكاديمي أن يتحرر منه، وتلك هي النفعيةُ النتنة التي ينبغي لصاحب التفكير السياسي أن يربأ بنفسه عنها.

وختاما، وجب تذكير الأكاديمي التفكير بمقولة «ما لا يدرك كله لا يترك جله»، ومقولة «السياسة هي فن تحقيق الممكن». كما وجب تذكير السياسي التفكير بمقولة «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، فالأزمة التي يعمل على استمرارها اليوم، لأنه مستفيد منها، يوشك أن يمتد ضررها ليصل إليه غدا كما وصل إلى غيره بالأمس.

إن السياسي الناجح هو الذي يفكر بطريقة أكاديمية، فتراه يتعاطى مع الأزمة في الظاهر، ويدبر طريقة في الخفاء لإسقاطها أو إضعافها على أقل تقدير، وإن الأكاديمي الناجح هو الذي يفكر بطريقة سياسية، فتراه منشغلا بالبحث عن حلول ناجعة للأزمة من أجل القضاء عليها أو تحجيمها في أسوأ الأحوال دون أن يتخلى عن الابتسامة في وجهها، ومد يده الناعمة لمصافحتها حين يلزم الأمر، فلكل واحد منهما وجهان لا ينبغي له أن يفرط في أحدهما على حساب الآخر، وإذا شئت فلك أن تقول إن للحكمة وجهين: أحدهما أكاديمي يفكر في كيفية حل الأزمة في النهاية، والآخر سياسي يفكر في كيفية إدارتها في تلك الأثناء. أما الإصرار على الظهور بوجه واحد في مثل هذه الحالات فذلك سقوط في مستنقع سوء التدبير، ودليل على ضحالة الرأي والتفكير.