Atwasat

المتغطي بالأسرار عريان

سالم العوكلي الثلاثاء 05 سبتمبر 2023, 05:50 مساء
سالم العوكلي

كمنافح عن حقوق المرأة الليبية وجدارتها بتحمل المسؤولية، ومؤمنٍ بقدراتها الاستثنائية على أن تتصدر المشهد الليبي في كل مجالاته، فرحتُ كثيرًا بتعيين السيدة نجلاء المنقوش في منصب وزيرة الخارجية، وبغض النظر عن المضمون كنت منحازًا في حماسي للشكل، لأن للشكل أيضًا خطابه، فكانت ـ بالنسبة لي على الأقل ـ شبيهة بقصيدة نثرية تلمع وسط ضجيج من السجع الذكوري الركيك.

أطلت بهندامها الأنيق وشعرها المُرسَل الذي يذكرنا بعقدَي الستينيات والسبعينيات، ومظهر فتيات ونساء الطبقة الوسطى ـ آنذاك ـ حين كانت ليبيا في ذلك الوقت أُمّةً مالكية وسطية بوجدان صوفي كما الشمال الأفريقي كله، وقبل أن يصل إلينا طشاش الثورة الإيرانية الشيعية لتجلب معها شرنقات السواد التي بدأت تغطي أجساد ووجوه النساء في مظهر طاغٍ من الحِداد الكربلائي، آزرته تيارات سلفية مكبوتة مازالت لا ترى في المرأة سوى عورةٍ يجب سترها.

كنت أتابع رحلات الوزيرة نجلاء وظهورها على الشاشات بما يثبت للعالم أن كل محاولات أفغنة ليبيا الوسطية مصيرها الفشل، دون أن يفارقني سؤال مقلق عن كيف تم اختيارها في ظل مسار سياسي ذكوري بامتياز تهيمن عليه تيارات أبوية وظلامية لا ترى في المرأة سوى متاع؟ وهل كان الأمر دعائيًا أكثر منه قناعة بجدارتها؟ أم كانت مشروعًا خبيثًا لحرق هذا النزوع النسوي في الفرن الليبي المتوهج؟. ولماذا كان المجلس الرئاسي في إطار تشكيله للحكومة يبحث عن امرأة من المجتمع الحضري في الشرق لهذا المنصب السيادي والخطِر في هذه المرحلة؟.

بعد فوز قائمة المنفي/ الدبيبة المفاجئ للمتابعين والمحللين في لجنة الخمسة وسبعين، نشر أحد الأصدقاء منشورًا يعبر فيه عن استغرابه، وكتبت تحته تعليقًا مقتضبًا مفاده «فتش عن إسرائيل» وحقيقة لم يكن هذا التعليق المنفعل نتاج تأمل أو تحليل أو حدس مرفود بمقدمات، لكنه كان نتاج غضب فقط، وأحيانًا يكون الغضب ملهمًا. وعلى التعليق رد البعض بحدة متهمًا صاحبه بأنه يعاني من مرض اسمه (وسواس المؤامرة)، لكن في جميع الأحوال حين نضع مصير البلد بين أيدي القوى الكبرى أو بين أيدي ما يسمى المجتمع الدولي، علينا أن نتوقع المؤامرة، التي سأسميها احترازًا (صراع المصالح) التي لن تذهب في النهاية إلا صوب الأقوياء، وما وصلتْ إليه منطقتنا بعد فوضى عارمة عاشتها ما بعد الحرب العالمية الثانية أن أصبحت إسرائيل محور الحدث، والتفتيش عنها في كل تفصيل لا ينأى عن الموضوعية، ثم أصبحت ورقة التطبيع هي الورقة الرابحة لكل من يسعى للوصول إلى السلطة أو يرغب في الاستمرار فيها في دول لم تكتشف بعد العلاقة الوطيدة بين السلطة والشرعية الديمقراطية التي تأتي من الداخل.

(فتّشْ عن إسرائيل) ليس كوجيتو مَرَضيًا، ولا هلوسة من هلوسات ما يسمونه نظرية المؤامرة، لأن أي متتبع لأحداث الشرق الأوسط منذ عقود سيجد الكيان الصهيوني في قلب كل حدث تقريبًا، وسواء وصِفتْ بعض الدول بالممانعة أو بالتواطؤ فإن هذا الكيان وراء ما تتخذه من قرارات أو ترسمه من استراتيجيات، فالنظم العسكرية المؤدلجة التي اجتاحت بعض الدول العربية التي سمت نفسها دول ممانعة اعتمدت في البداية استراتيجية إعلان العداء لما يسمى إسرائيل، وتوعدتها بالويل من أجل الحصول على تأييد شعبي محلي ونوع من الشرعية، وحين تأزمت علاقة هذه النظم بشعوبها وتحولت إلى كراهية متبادَلة، اعتمدت فتح باب التطبيع كورقة رابحة للاستمرار في السلطة رغمًا عن شعوبها.

وبين عمليات التواصل السري والعلني مع هذا الكيان، ومنذ عقود، كانت الأنظمة أو معظمها تعتمد السرية إلى أن يحين موعد الجهر بها في الوقت المناسب، أو حين يتغلب الظرف القاهر على بعض ما تبقى من خجل. وهذا ما جعل رئيس الموساد يقول إن مثل هذه الاتصالات يجب أن تقتصر على جهاز المخابرات السري. فالمهم ألا ينقطع حبل التواصل في انتظار الكشف عن الفضيحة بالتقسيط المريح مثلما يحصل مع أنظمة عربية أخرى.

أما السيدة الموديرن التي خذلت فرحة النخب الليبية بها، وطعنت التيار النسوي الناشئ في الظهر، فإنها بسذاجتها وعدم خبرتها تحولت إلى لعبة ومجس ناعم لهذه الأجندة الخطيرة؛ بل تحولت إلى فأرة اختبار تدور في قفص ملون، ونعجةِ فداء وسط صراع الذئاب، ولأن المرأة مازالت هشة ومضطهدة كانت فكرة (نعجة الفداء) أكثر فاعلية من كبش الفداء، وربما هذا ما يجعل المنقوش صامتة حتى الآن عن حقيقة ما جرى، خاصة حين تتحصن مستويات السلطة العليا بأدوات ابتزاز أو تهديد كاتمة للصوت. ويُحكى أن جملًا كان يحمل نعجة فوق ظهره وطأ على رِجْل ذئب، فقال الذئب: اذهب بسلام أيها الجمل، أما أنتِ يا نعجة فالويل لك والثبور.

والآن تتكالب أطراف ليبية عدة على استثمار هذه السقطة المدوية في طقس جماعي من التطهر، وبعيدًا عن الشارع الليبي الذي مازالت فلسطين أنشودة ضميره الأخلاقي، كانت الأطراف المتصارعة بانتهازيتها المعهودة تتملق وتُزايد بشكل سافر، وأكثر هذه الأطراف انتهازية ومزايدة هم مؤيدو النظام السابق الذين خرجوا إلى الشارع برايات الاستبداد التي كم رفرفت حول مشانق الليبيين في الساحات العامة، وكأن قائدهم كان محاربًا في فلسطين أو بعيدًا عن جاذبيات التطبيع، فهو في الواقع من واربَ باب التطبيع حين تأزمت علاقته بالداخل، واشتدت عليه الضغوط إبان الحصار، فاقترح دولة واحدة هجينًا على أرض فلسطين سماها «إسراطين» لتتحول فلسطين إلى مجرد (طين) عالق بالأصل (إسرائيل) في اعتراف ضمني بالدولة العبرية كأساس للدولة، ثم أرسل فوجًا من اللجان الثورية للحج في القدس بعد أن أزيل من جوازات سفرهم تنبيه (صالح للسفر إلى كل دول العالم ما عدا إسرائيل)، وهو من عاث في وحدة النضال الفلسطيني خرابًا وانشقاقات، ما تسبب في معارك طاحنة في بعض المخيمات الفلسطينية، وهو من استخدم بعض المنظمات الفلسطينية لتنفيذ أجنداته الخاصة في أعمال إجرامية خارج ليبيا، وحين أصابه الفزع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وصولًا إلى سقوط أعتى ديكتاتور في المنطقة، صدام حسين، هو من قفل كل مكاتب هذه المنظمات في طرابلس بضغوط أمريكية تَعِدُه بعودة الابن الضال إلى حضن المجتمع الدولي، ليواصل الوارث المفترض سيف الإسلام هذا المشروع بعده عبر دخوله في حوارات مع اليهود الليبيين في إيطاليا.

يذكر موقع القناة الروسية العربية RT بتاريخ 15 نوفمبر 2021، أن صحيفة «هآرتس» العبرية أفادت «بأن سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، أدار الاتصالات بين ليبيا وإسرائيل، بشأن القضايا الدبلوماسية والإنسانية». وفي تقرير لها ساهمت به وكالة أسوشيتد برس، أشارت هآرتس إلى أنه بينما كان معمر القذافي من أشد المؤيدين الصريحين للقضية الفلسطينية، ودعم الجماعات الفلسطينية المسلحة بالأموال والأسلحة والتدريب، كان سيف الإسلام قد التقى علنًا بالإسرائيليين من قبل، وحتى إنه واعد ممثلةً إسرائيلية. وأضافت الصحيفة في تقريرها أنه لا توجد علاقات رسمية بين الطرفين، لكن إسرائيل ونظام القذافي كانا على اتصال بشأن القضايا الدبلوماسية والإنسانية، لافتة النظر إلى أن سيف الإسلام أدار هذه الاتصالات من خلال رجال أعمال يهود من أصل ليبي، أحدهم هو والتر أربيب، الذي تتركز أعماله في كندا.

من ناحية أخرى، القانون الوحيد الذي يجرم التواصل مع هذا الكيان بأي شكل من الأشكال صدر إبان الحقبة الملكية: (قانون 62 لسنة 1957) الذي يحظر على أي مواطن ليبي أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقًا من أي نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسياتهم، أو يعملون لحسابها، أو مع من ينوب عنهم. وهو قانون تم إلغاؤه عمليًا بعد إعلان النقاط الخمس في زوارة تحت بند «تعطيل القوانين المعمول بها كافة»، وطيلة 38 سنة من حكم القذافي لم يصدر قانون بديل له يجرم التطبيع، لأن هذا الباب تُرك مواربًا تحسبًا لأي ضرورة تبيح المحظور مستقبلًا.

وعمومًا على الانتهازيين الذين يصطادون في ماء التطبيع العكر أن يدركوا أن الشعب الليبي أسقط نظامهم، لأنه ارتكب جرائم مخجلة طيلة أربعة عقود في حق الليبيين، كلها موثقة الآن، وأن ثورة فبراير قامت لأسباب داخلية، وأن معاناة الليبيين من هذا النظام، من قمع وإعدامات وخطف واعتقالات واحتقار وتفقير، لا تقل عن جرائم الكيان الصهيوني مع الفلسطينيين إن لم تكن أفدح.
أما ما حدث من لغط في الأوساط السياسية للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة احتجاجًا على تسريب خبر الاجتماع وتواصل الحكومة الليبية مع الحكومة الإسرائيلية، وأنه من المفترض أن يكون الأمر سريًا، يشكل في مجمله إهانة كبرى للشعب الليبي تصل إلى درجة استحقاره واستغفاله، باعتبار أن هذا اللغط والاحتجاج كان من باب الحرص على أن يكون الشعب الليبي مغفلًا ومخدوعًا. وهي إهانة يدرك الليبيون أن رئيس الحكومة الليبية كان مشاركًا فيها، فنقلًا عن مصادر داخل الحكومة الليبية تؤكد وكالة أسوشيتيد برس أن رئيس الحكومة الدبيبة هو من خطط لهذا الاجتماع السري.

وفي جميع الأحوال، لابد أن يعرف كل متواطئ ومحتقر لضمير الشعب الليبي أن أرشيف مخابرات الكيان الصهيوني مليء بالأسرار التي مصيرها تنكشف يومًا. والمتغطي بالأسرار عريان.