Atwasat

علاقة المثقف بالسياسة

خالد العيساوي الثلاثاء 05 سبتمبر 2023, 02:19 مساء
خالد العيساوي

حين نلقى نظرة عامة على المشهد السياسي المجتمعي يتبين لنا بجلاء أن المثقف يمثّل فيه حلقة الوصل بين عامة الناس وأصحاب السلطان السياسي، إذ لا يمكن التغاضي عن دور الوسيط الذي يؤديه المثقف الفاعل أو المثقف العضوي، كما سماه «غرامشي»، والذي بموجبه يمثل البراح الواسع الذي يلتقي فيه الحاكم بالمحكوم.

لذا، فإن وظيفة المثقف وظيفة ازدواجية، تنظر بعين إلى العامة من الناس، وبالأخرى إلى الفئة الحاكمة منهم؛ بهدف خلق نوع من الانسجام والتماهي بينهما، وهذا أمر يشي بأهمية المثقف لكلا الطرفين، وبدروه الطليعي في المجتمع؛ إذ دونه لا وجود لذلك الجسر الذي يربط بين ضفتي المجتمع.

حين يلتفت المثقف إلى المجتمع يدرك تماما أن من واجباته السعي من أجل تقديم مشروع فكري سياسي يعود على المجتمع بأكمله بالفائدة والمنفعة، وليس على شخصه فقط، فهو يرى نفسه ضمن منظومة المجتمع الذي ينتمي إليه، وليس منعزلا عنها، ومن هنا تتلبسه حالة أخلاقية توجب عليه الصعود بهذا المجتمع فكريا وسياسيا وثقافيا. كيف لا وهو الذي يتماهى مع قضايا مجتمعه ومشكلاته ورؤاه، وهذا يفرض عليه أيضا أن يعكس في سلوكه كل ما يعتقد أنه حق وصواب، كما يقول «محمد عابد الجابري».

الأمر الذي يوجب عليه أيضا أن يكون قادرا على امتلاك تصور شامل وقراءة واعية لمجريات الأمور وأحداثها، مستوعبا دينامكياتها وتغيراتها وتقلباتها، فاعلا فيها من خلال القدرة على إحداث أثر إيجابي ما في نتائجها ومآلاتها.

ومن هنا، فإن المثقف كائن بشري يمثّل مؤسسة متكاملة تعمل على خلق نظام اجتماعي وسياسي واعٍ من خلال اعتماده آلياتٍ ناقدةً فاحصةً قادرةً على معاينة الثغرات الكامنة في النظام السياسي، بغية الوصول إلى تقديم المقترحات الناجعة لسدها، وهو ما يحتم عليه عدم المهادنة لا في تشخيص الحالة، ولا في وصف العلاج اللازم لها حين يلتفت إلى السياسة والسياسيين، إذ إنه يضل في مواجهة دؤوبة وغير مهادنة مع النظام السياسي المسيطر، بعكس السياسي الذي يتناغم عادة مع الواقع المعيش، ويعمل على استرضاء الجميع على اختلاف توجهاتهم وأيديولوجياتهم من أجل تحقيق المنافع الشخصية، وبلوغ المصالح الظرفية الآنية من خلال إيلاء الشأن الجزئي والخاص اهتمامه الأكبر على حساب الشأن الكلي والعام.

ومن هنا أيضا، فإن السياسي يخشى المثقف؛ لأنه يتمثل في وعيه الباطن أن هذا الأخير يمثل الضمير الواعي للمجتمع، والبقعة المضيئة في ظلام الجهالة، وأن المثقف إذ يمارس السياسة من خارج إطارها التنفيذي، فإنه لا ينقاد بشكل سلبي وراء ما يسوّقه السياسيون. كما أنه لا يكتفي بالانتشاء بحالة الوعي التي يعيشها، بل إنه يتفوق على نرجسيته، ليتجاوز هذا وذاك إلى التأثير في مجتمعه بشكل إيجابي من أجل الاقتراب أكثر من حالة الاكتمال البشري.

لذلك، فإن السياسي يعي جيدا أن الثقافة بمفهومها الشمولي ومفهومها السياسي هي المدخل الذي يمكن أن يلج منه المواطن من أجل فهم ما يجري في السياسة، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، وأن أي مشروع سياسي جديد متمرد على المشروع القائم إنما يتخذ من الثقافة مدخلا له.

والمشكلة تتجلى حين يحاول السياسي ترويض المثقف، حتى لا يمارس دوره في النقد والتثقيف أو التغيير إن لزم الأمر، ويطلب منه أن يكون خادما مطيعا مروجا لسياساته، خادعا لمجتمعه، بمعنى أن يمارس دور الذين سماهم القرآن «الحاشرين» في قوله تعالى: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ»، وهم الذين يمثلون البوق الإعلامي للسلطان، فإذا ما انقاد المثقف للسياسي وتحول من كونه ناقدا إلى كونه مروجا، ومن كونه ضميرا واعيا ينير بصيرة الناس إلى كونه بوقا حاشرا يستخف بعقولهم، فإنه يصبح الأداة التي من خلالها يضفي السياسي ألوانا زاهية على لوحته السياسية الباهتة، ويصبح القناة التي بها يشرعن أفعاله، ويسيطر من خلالها على قلوب العامة، وفي هذه الحالة يدرك المثقف أنه صار يلعب دورا آخر لا ينتمي في حقيقته إلى دائرة الثقافة.

أما إذا رفض المثقف هذه المهمة، التي قد يفرضها عليه صاحب السلطان، وأخلص إلى مجتمعه ووظيفته، فإن هذا الأخير يعمد إلى استيعابه واحتوائه أولا، فإن لم يكن بد فإلى كبته وقمعه وإسكات صوته، وإذا ما أصر كلا الطرفين على موقفه: إذا استمسك السياسي بنظرته الجزئية غير الشمولية ونفعيته الخاصة، وأخلص المثقف إلى مجتمعه وتوعيته وإنارة عقول أفراده، فإن ذلك قد يقود إلى سلسلة من المشاكل التي قد توصل البلد إلى مهالك لا تحمد عقباها، ولذلك تظل عين السياسي ساهرة، لترقب تحركات المثقف، وحتى سكناته، لتعلم أي المسلكين سيسلك، إذ لا شيء يخيف السياسي كالمثقف. ولذلك، فإن وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر جوزيف جوبلز كان يقول: «كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي».

وقد يستعمل السياسي المثقف مرحليا لضرب خصومه من خلال الاستظلال بالقيم نفسها التي ينادي بها المثقف، تقربا إلى العامة من الناس، حتى إذا ما حقق أهدافه، صاعدا على سلم الثقافة، ضرب الثقافة والمثقفين في مكمن، ليستفرد بالأمر والسلطان. لذلك، فإن قادة الثورة الفرنسية بعد أن اعترفوا بدور المثقف في التوعية والتعبئة، على حد سواء، لدرجة أنهم بوأوا العقل مكانة مرموقة من خلال إعلاء قدر الفيلسوف «فولتير»، عادوا واستهدفوا المثقف بحجة أن سقف طموحاته لا حد له، بمعنى أن السياسيين استخدموا المثقف في ضرب خصومهم، ثم استفردوا به.

تبقى مسألة مهمة، وهي: هل يجوز للمرء أن يجاوز بين العملين: الثقافي والسياسي أم لا؟، وللإجابة نقول: إن المثقف يظل فردا من أفراد المجتمع يحق له ما يحق لغيره من ممارسة هذا العمل أو ذاك، على أنه قد يرى نفسه صاحب مشروع فكري رائد، وأنه أولى من غيره بحماية هذا المشروع، وإنجازه على أرض الواقع.

لكن هذا الطرح يقودنا بدوره إلى سؤالات أخرى هي: هل يمكن للمثقف أن يمارس السلطة من خارج إطارها التنفيذي ومن داخله في الوقت نفسه أم أن ذلك سيجعله مع الوقت ينسلخ من دوره التنظيري التوعوي لينغمس فيما انتقد غيره به؟ أو لعله عاش في برجه العاجي حياة مثالية نرجسية انفصل فيها عن واقعه ومحيطه؟ أو ربما ظل مرتبكا متأرجحا بين ما هو تجريدي وما هو واقعي في حركة بندولية دؤوبة، فلا بهؤلاء التحق ولا بهؤلاء التصق؟. إن الإجابة على أسئلة كهذه لن تكون سهلة على الإطلاق، ولن تكون نمطية أبدا، ولن تُقبل على علاتها البتة، ولا يمكن الحكم فيها إلا على كل حالة بمفردها.