Atwasat

تاريخ الجثة الليبية

منصور بوشناف الخميس 17 أغسطس 2023, 08:57 مساء
منصور بوشناف

تعج الذاكرة الليبية بمشاهد العنف والقتل والتنكيل، ويعود تاريخ تلك المشاهد إلى العصر التركي والعقود الإيطالية بالتحديد؛ حيث عانى الليبيون أصنافًا من الاضطهاد والتقتيل والمعتقلات «الهولوكست» الفاشية وحروب الإبادة الجماعية، ولا يخلو بيت ليبي لم يتعرض أحد من أفراده لشيء من هذا التنكيل.

المعتقلات والتعذيب الممنهج كان أداة الأجنبي المحتل ضد الليبيين، فلا نجد بتاريخنا معتقلًا ليبيًّا لليبيين إلا بعد الاستقلال والحكومات الوطنية، لقد ظلت السجون والمعتقلات في الذاكرة الليبية جزءًا من التاريخ الاستعماري، وظلت الذاكرة الليبية تحتفظ بإرث كبير من أدب المعتقلات شعرًا وحكايات كتاريخ يتناقله الليبيون من جيل لجيل وكله يصور ممارسات المحتل، ولم يظهر أدب المعتقلات الليبية إلا بعد الاستقلال دون أن يحتل في الذاكرة الليبية مساحة ذات بال إلا متأخرًا وبالتحديد بعد «خطاب زواره».

التصفية الجسدية مصطلح أطلقه «القذافي» وبدأ الليبيون في تداوله، وبدأت ممارسته عمليًّا ضد المعارضين والخصوم السياسيين فترة الثمانينات من القرن الماضي، وكان يتم في شوارع مدن العالم ضد المعارضين الليبيين وتقوم به أذرع «القذافي» عبر قارات العالم وفي المعتقلات الليبية، كانت جثث القتلى الليبيين قد احتلت جزءًا من المشهد السياسي العالمي ومن نشرات الأخبار عبر العالم.

مشهد الجثث الليبية المعلقة على أعواد المشانق لساعات اختفى بعد الاحتلال الإيطالي، ولم يظهر من جديد إلا في السابع من أبريل عام 1977م ببنغازي، بالضبط اختفى منذ مشهد جثة عمر المختار وهي معلقة بميدان عام «بسلوق» ليظهر عام 1977م في بنغازي وجثث «عمر دبوب ومحمد بن سعود وعمر المخزومي» معلقة بميادين بنغازي، ليعم بعد ذلك ميادين المدن الليبية عام 1984م.

التمثيل بالجثث الليبية وجرها على الأسلفت دشن بالجامعات الليبية ثمانينات القرن الماضي، فشرع الطلاب الليبيون الثوريون في جر جثث زملائهم المعارضين بعد شنقهم على أسفلت الجامعة، جثة «مصطفى النويري» وجرها على أسفلت جامعة «قاريونس» كان البداية لينتشر بعدها ذلك الطقس الهمجي عبر شوارع المدن والقرى الليبية.

تقطيع الجثث الليبية علنًا وفي الساحات العامة دشن في «باب العزيزية» حيث شاهد الليبيون جثة «خشيبه» وهي تقطع إربًا إربًا ليبلغ ذروته أثناء ثورة فبراير حين قطع الليبيون جثة «جندي ليبي» في ميدان عام وأمام كاميرات التلفزيون، ليهمن هذا المشهد على كل المشاهد.
الرأس الليبي المقطوع ظل يُستخدم كدليل على نهاية التمرد والقضاء على العدو والأخذ بالثأر، ويزدحم التاريخ والذاكرة الليبية بالرؤوس الليبية المقطوعة المغروسة على رؤوس الرماح، فكانت طرابلس تصحو في الكثير من صباحاتها على رؤوس ليبية مقطوعة معلقة عند مداخل السرايا الحمراء إبان العصر التركي ثم القرهمانلي كدليل على القضاء على تمرد ليبي ضد سلطة السرايا الحمراء.

رأس يوسف بورحيل الذي واصل قيادة المقاومة بعد شنق عمر المختار قطعه الإيطاليون وحملوه في كيس إلى بنغازي ثم إلى سلوق وعرضوه لليبيين كدليل على نهاية المقاومة.
الرأس الليبي بعد فبراير تحول بعد قطعه أمام الكاميرات إلى كرة يلعب بها ملتحون في بنغازي ودرنه.

الجثة الليبية العدوة أو المعارضة دشن الليبيون إخراجها من قبورها وسط شعائر همجية في ثمانينات القرن الماضي وألقيت في البحر أو للكلاب لأن التربة الليبية ترفض جثث الخونة والعملاء كما تقول أدبيات ثورة سبتمبر، ثم واصل الليبيون ممارسة هذه الشعائر بعد فبراير، وشاهد الليبيون على شاشات التلفاز جثثًا ليبية ملقاة في مكبات الزبالة.

جثة المرأة الملقاة في الشارع أمام كاميرات التلفزيون لم تظهر مشوهة ولا عارية؛ بل حافظ الليبيون على حشمتهم الزائفة، وظهرت مغطاة كما في حياتها اتقاء لفتنتها حية وميتة.

تاريخ الجثة الليبية جزء مهم من تاريخنا الوطني لم ينل اهتمام المؤرخين ولا علماء النفس والاجتماع وحتى الإنثربولوجيا ونقاد الأدب والفنون، رغم أهميته لفهم تطور وانحطاط علاقتنا بالجسد والروح والموت والقيامة وإسلامنا الذي ندعي.