Atwasat

الصمت المُوحش

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 أغسطس 2023, 12:26 مساء
محمد عقيلة العمامي

بعض رفاق جيلي، خصوصاً أولئك المستمتعين ببهجة التقاعد، والصحو المبكر اللا إرادي، والتدبر في خلق الله، وإصرارهم الذي يبلغ، أحياناً، حد الانفعال عند سرد ذكريات شبابهم مع رفاق جيلهم عن حادثة فات عليها قرابة نصف قرن، دقتهم عجيبة في تقدير أعمار حتى من لا يعرفونهم. منذ أيام، دخل خيمة (آخر ليلة) شخصية منحنية بوضوح على عكاز، وبجانبه شاب متأهب، بدا لي وكأنه يتوقع تعثره! عقب صديقنا الثالث:

«قريب يسلم الطارقات!».. أجابه صديقى: «إنه من عمرك بالتأكيد!». رفض ثالثنا.. وبإصرار!، ولكن صديقي أفحمه مشيراً إلى أنه يرتدي بدلة (فاشيس) وجميعنا يعرف أنها من محل سالم خليف! فصمت صديقنا الثالث! لأنه كان المحل الوحيد في شبابنا الذي يبيع ماركة هذه البدل.

سبب هذه المقدمة، مقال مؤثر قرأته البارحة، ولا أخفي عليكم أنني حلمتُ به!. المقال للكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلهو، الذي ما إن أقرأ له شيئاً حتى أتمنى أن أكتب مثله، بل وكثيراً ما وظفت جملا وصورا من إبداعه. من نصوص مجموعته (كالنهر الذي يجري) مقال مؤثر عنوانه (الموت الذي كان يرتدي المنامة)، يقول فيه، أن مدينة طوكيو عملاقة، وكنت قد زرتها أنا شخصياً في ثمانينات القرن الماضي، ورأيت بدع جسورها المتراصة حد السماء، وأسواقها متعددة الطوابق فوق وتحت الأرض، والحركة فيها متصلة، ومع كثرة عدد سكانها - 125.7 مليون نسمة سنة 2021 - تعدّ إحدى أكثر المدن أماناً في العالم.

خلاصة مقاله أن عمال مشروع ترميم عمارة قديمة، في طوكيو، وجدوا «هيكلاً عظمياً يرتدي منامة. وإلى جانبه وجدت صحيفة مفتوحة..» يعود تاريخها إلى عشرين سنة مضت! و(طوكيو) أكثر مدن العالم اكتظاظا بالناس! وبتتبع التحقيقات عرفوا أن الهيكل العظمي لرجل كان يوماً يعمل في الشركة التي بنت هيكل هذه العمارة ولكنها أفلست وظلت هياكل بعض مبانيها قائمة، والرجل مشرد ومفلس، فلم يجد أين يقيم سوى في هذه العمارة، وباغته هذا الموت اللعين! كان عمره يوم تاريخ الصحيفة التي أشرنا إليها خمسين عاما. وكان مُطلقًا، ولا ذرية له، ومفلسا، فلم يبحث عنه أحد! وبسؤال معارفه عنه، أفادوا أنه قد اقترض منهم بعض المال وعجز عن تسديده والشركة حينها مفلسة ولا أحد يهتم بغياب أحد من عمالها، وهم اعتقدوا أنه هرب من دينهم.

يختتم الكاتب مقالته، ويخبرنا أن بقاياه سُلمت إلى زوجته السابقة، التي لم تسع أبداً، طوال عشرين سنة، للقائه، ويتساءل الكاتب: كيف كان إحساسها عندما علمت بخبر وفاة رجل قاسمته جزءاً كبيرا من حياتها!!؟ ثم يستطرد كيف أن إنساناً يختفي من الحياة ولا يسأل عنه أحد.

أما المؤلم هو رأي الكاتب الذي لخصه قائلاً: «أن ما هو أقسى من الجوع والعطش والبطالة والألم والحب ويأس الهزيمة... هو أن تشعر أن لا أحد يهتم بك!».

أفلا ترون أن هذا الإنسان البائس الياباني، يستحق أن نترحّم عليه، لأنه نبهنا إلى أهمية أن تكون جزءاً من تجمع بشري، وجعلنا نفكر أيضاً، فعلياً وعملياً، وننتبه إلى أهمية أصدقائنا، فمن دونهم حياة المرء مجرد صمت موحش وقبيح.