Atwasat

صبيحة الانتخابات.. من الكتلة السلطوية إلى الكتلة التاريخية

خالد العيساوي الثلاثاء 01 أغسطس 2023, 06:35 مساء
خالد العيساوي

في ظل التشتت الفكري والسياسي والثقافي الحاصل اليوم، وفي ظل ضبابية المشهد وعدم اتضاح مسالكه وطرقه، يقف السياسي على بوابة متاهة لا يدري أي سبيل يسلك فيها، حتى يصل إلى المخرج الآمن، وقد تقوده هذه الحيرة إلى سلوك الطريق الخطأ التي سيظل يجوب بها في ممرات لا يدري من أين بدأت ولا أين ستنتهي، لتقوده في نهاية الأمر إلى المجهول، ولذلك تسود في مثل هذه الأحوال مقولات انهزامية من مثل: لم أعد أفهم، ولا أحد يستوعب شيئا، وكلنا نسير في طريق ولا أحد يدري إلى أين ستقودنا. كل ذلك بسبب عدم تشخيص الحالة السياسية الراهنة بشكل جيد، الأمر الذي ينتج عنه انعدام القدرة على اقتراح الحلول الناجعة، إذ كيف يصف الطبيب دواء ناجعا وهو غير قادر على تشخيص الحالة؟.

في ظل المجتمعات النخبوية تسيطر فئة قليلة على السلطة بحكم نفوذها، فتطفو على السطح كتلة صغيرة تسمى «كتلة السلطة»، وهي ثمرة اللاشعور السياسي المتكون من رواسب دفينة قديمة ومتجذرة تخص تنظيما جماعيا ما قائما على أساس ديني أو قبلي أو أيديولوجي عادة، لأن السياسة في مجتمعاتنا العربية بدأت أساسا تحت مظلة الدين والقبيلة كما يقول محمد عابد الجابري (2010 م). وأخيرا، بدأت دائرة «كتلة السلطة» هذه تكبر شيئا فشيئا نتيجة اتساع دائرة التحالفات، لتبرز لها أسس أخرى ترتكز عليها كالأساس المالي أو الحزبي أو المناطقي أو النفعي أو ما شابه. لكن هذه الكتلة تظل صغيرة وفئوية مقابل الكتلة الكبيرة التي تنتمي إليها الغالبية.

وكما يرى الجابري، فإن الصراع السياسي القائم في مجتمعاتنا اليوم هو صراع غريب عنها، لأنه إما صراع جرى استدعاؤه من الماضي السحيق (قبلي/ ديني)، وإما صراع وافد إلينا من فضاءات غريبة عنا (أيديولوجي). وقد يكون جد عليه الصراع السياسي القائم على المنفعة المباشرة، حيث تتحالف مجموعة من القوى السياسية تجمعها مصالح موحدة مع اختلاف مرجعياتها القبلية أو الدينية أو الأيديولوجية، لكنها تظل في رأينا تختبئ تحت إحدى هاتين العباءتين (القبيلة + الدين أو الأيديولوجيا)، لأنهما الأكثر جذبا للرأي العام، ولذلك ينعت الجابري هذا النوع من الصراعات على السلطة بأنه صراع بالوكالة، لأنه يقوم على استدعاء حالة تاريخية لا تمت للواقع المعيش بصلة، أو على استجلاب منظومة أيديولوجية غريبة لا تنسجم مع الحالة الراهنة لمجتمعاتنا.

ونتيجة وجود «كتلة السلطة» هذه تبرز صراعات دؤوبة لا تنتهي، طرفها الأول هذه الكتلة المسيطرة دائما، أما طرفها الثاني فينقسم إلى قسمين: كتلة سياسية أخرى تحاول انتزاع السلطة، وكتلة الأغلبية المغلوبة على أمرها. وفي جميع الأحوال، فإن «كتل السلطة» المتصارعة تحاول كسب ود كتلة الأغلبية موقتا من أجل التربع على كرسي السلطة، لكنها لا تلبث أن تدير لها ظهرها فور فوزها بهذا الكرسي، لتمارس هذه الكتلة دور الكتلة المهزومة والعكس صحيح. أما كتلة الأغلبية فتظل ساذجة مهزومة، وتظل وقودا للصراع المحموم الدائر بين كتل السطلة، وهكذا دواليك.

هذا الانسداد السياسي أو الاحتقان المجتمعي قاد الكثير من المفكرين والمُنظرين السياسيين للبحث عن حل لهذا الإشكال، بمعنى أن «كتلة السلطة» لم تعد مقبولة عند الكثيرين، لأن هذه الكتلة لم تعد تعبر عن رغبات الناس بقدر ما صارت راعية لمصالح فئة قليلة منهم على حساب الأغلبية، ولذلك نرى مفكرا مثل أنطونيو غرامشي (1937 م) يحدثنا عن كتلة جديدة أطلق عليها اسم «الكتلة التاريخية». هذه الكتلة ليست مجرد تحالف آني بين قوى سياسية تجمعها مصلحة ما من أجل الوصول إلى السلطة، بل هي بناء قوي وتاريخي طويل الأمد يهدف إلى استحداث نظام هيمنة جديد قائم على مصلحة الغالبية ومصلحة الوطن، وليس على مصلحة فئة ما، ولذلك فهي عبارة عن بناء إستراتيجي تاريخي بين كل القوى الاجتماعية الباحثة عن التغيير، كما يقول الجابري.

برزت فكرة «الكتلة التاريخية» عند غرامشي إبان الحكم الفاشي، ولم تكن هذه الكتلة عنده مجرد بنية فوقية نخبوية، كما هو الحال في «كتلة السلطة»، بل هي كتلة تحتية عميقة تعمل على تحقيق أهدافها بالتحالف مع القاعدة الشعبية، وليس مع الفئة النخبوية من أجل محاربة ظاهرة ما أو فكر ما محتكر ومسيطر على السلطة وصنع القرار، وغير قادر على رؤية غيره من الأطياف والألوان، بل غير مراعٍ لمصلحة الأغلبية، كما هو حال الفاشية في رأي غرامشي.

إذن، الاتجاه نحو القاعدة الشعبية (الكتلة التاريخية) قد يمثل انفراجا لهذا الانسداد السياسي، وذلك لا يكون ببناء تحالفات الغرض منها الوصول إلى السلطة، والنظر إلى المواطن على أنه مواطن موسمي، كما أشرنا في مقال سابق، ولكنه يكون ببناء تحالفات تاريخية صلبة تحمل فكرا بناءً وقادرا على التغيير والقيادة. تحالفات ترتكز على الوعي المجتمعي، وليس على الخداع الفئوي، وهذا يتطلب وجود ما أسماه غرامشي «المثقف العضوي» القادر على القيام بهذه المهمة التاريخية التي أساسها إعادة إنتاج الوعي عند المتلقي من أجل أن يسهم في التغيير المنشود، وبناء الكتلة التاريخية المهيمنة بمفاهيمها الجديدة القائمة على القيم الأخلاقية التي يرتضيها أبناء المجتمع.

ولذلك، فعلى المتطلع للقيادة أن يخرج من قوقعة الدعاية السياسية التقليدية، وأن يعمد إلى بناء كتلة تاريخية كبيرة تكون واعية بمكمن الداء، وراغبة في التغيير، وقادرة عليه. كتلة لا يتوقف وجودها على وجود شخص بعينه، بل على أفكار يؤمن بها غالبية أفراد المجتمع، وهذا البناء لا يتطلب مترشحا تقليديا يبرز على الناس بوعود انتخابية زائفة، بل يتطلب وجود مترشح يمكن أن نطلق عليه اسم «المثقف العضوي»، الذي يقوم ببناء علاقة عضوية تربط بين العامة من الناس وبين المثقفين منهم، بين الحاكم والمحكوم.. إنه ذلك الشخص القادر على إعادة حياكة النسيج الاجتماعي من جديد، وإعادة ترتيب العقل الجمعي من أجل بناء فكر مستدام وقادر على التصدي لذلك الفكر الفئوي المسيطر، وقادر على بناء صرح الدولة بعيدا عن تقديس الأسماء وتمجيد الشخوص. لذلك، فإن المرحلة تستدعي وجود رئيس مثقف، يمثل الماضي ويستوعب الحاضر ويستشرف المستقبل، ويقدر على ربط مكونات المجتمع ببعضها ببعض من أجل توحيد صفها، لخوض معركة البناء، وإقناعها بالالتفات إلى المصلحة العامة، والتكتل من أجل تحقيقها، بدل هذا التشرذم الفئوي الذي تحكمه المصالح الضيقة الآنية.