Atwasat

بنغازي حيث لا أحد!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 01 أغسطس 2023, 01:34 مساء
أحمد الفيتوري

(إلى أخي عبدالسلام من تركني وحيداً وهجّ إلى السماء)

كل صراف بخيل، عند كل مصرف، يخطر بالبال من أهل بنغازي، من لم يستسلم لغواية بيع أرواحهم مقابل المال، وهم أقل من القليل.
عند مصرف ليبيا المركزي، البناء ذو الطرز الاميركية/ الوظيفية، ما كان قبل أن يدمر وكر القبح، ولقد أذهلتني صدمة مفاجئة، اقتران المال بالشح والقبح، ليس ثمة وقت للنظافة، لذا هذا المصرف في شمال من صوبه الميناء ومصرف الوحدة (شمال أفريقيا سابقاً)، على يمينه كانت المباني أعشاشاً للعناكب وأخواتها، ولهواة تصوير الحشرات خير مكان، لكن دكاكين الكمبيوتر تنتزعني من مشهد ذاكرتي المثقوبة، وعلى شمالها المبنى الإيطالي القديم، ما تتوزع فيه محلات عدة، أشهرها وأقدمها مصوراتي الفلاح، من زين ويزين هذه الأقواس بحلاق الفلاح أيضاً، تنسى مقهى العصافير وطلوبة، لست أنت ولا أنا مجايلها.

عند المقهى أتبين حلقة، قلادتها شاب هيبي، يرتدي بنطال جنز وتيشرت أبيض، كأنه في عراك مع البرد، فهو عائد في التو من صقيع «هلسنكي»، شعره "أكرت" منكوش، كأن زنوجة مندسة في سلالته البعيدة، أخاله «الصادق النيهوم» يرتد عن الجامعة، معطياً بظهره لكل شيء ولا شيء، وأن مريديه من يشكّلون الحلقة يستزيدونه، كانوا قبل وصباح كل سبت، يصطفون للحصول على نسخة، من العدد الأسبوعي من جريدة «الحقيقة»، كي يقرأوا مقالته: «أين تذهب هذا المساء»:

«يشاع عن بنغازي – أم اليتامى – أنها مدينة الكساد، وأن الموتى يمشون في شوارعها في وضح النهار، ويشاع عنها أيضا أنها «غولة مدينة»، لأن بنغازي الحقيقة ماتت مقتولة في الحرب..، أين تذهب هذا المساء: يستطيع المواطن في بنغازي، أن يعرج في طريقه على سوق الظلام، وينعم بالظلام ومشاهدة أشباح الجنود الإيطاليين، الذين حصدتهم طائرات الحلفاء في الحرب الماضية، ويتبادل معهم الشتائم بشأن الاستعمار، ويتمتع بالشماتة فيهم، ثم يذهب إلى «شارع بوغولة» بعد منتصف الليل، ويشق طريقه وسط الأشباح، إلى المسجد نفسه، الذي يصلي فيه صاحب الشارع دون رأس.. أعني إذا كان المواطن يرغب في متابعة السهرة.. أما إذا كان يملك ما يفعله في الصباح، فإنه يستطيع بالطبع أن يعود إلى بيته، موقناً من أن بنغازي لن تحرمه من حصته على أي حال، وأنه سيجد في الطريق، ثمة من يخبطه بحجر على ظهره، أو يتظاهر بالرغبة في إشعال سيجارته، ثم يقول له: بخ!)...

أين تذهب هذا المساء، بعد هدم بنغازي، بعد أن هدم «سوق الظلام»، ما بناه الترك، على شكل محلات مقوسة، في ممر طويل مسقوف، تتفرع عنه ممرات قصيرة، حافلة بأسواق أصغر، مختصة بين بيع الذهب، وبيع الحلى المحلية، من سنيبرة ودملج وبين عطارة الدهر.

أين تذهب هذا المساء، لقد هدم «ميدان السلفيوم»، قبالة قصر الملك، الذي من منارته أعلن استقلال البلاد، ما أهداه إلى الجامعة الليبية، هل تتذكرمدرج رفيق ومهرجان المدينة الثقافي؟... «ميدان السلفيوم» ما سماه جيلنا ميدان البيكاديلي:
تفتش في ذكريات الليالي الطويلات/
هل كنت أنا حقاً ذلك المارد المتدفق بالأمنيات/
أيها الشعر: أسألك الآن/
كيف تخبو الأماني الصغيرات/
هل ذبلت زهرة القلب/
أيها الشعر: آه … لو جئتني/
قبل هذا السكون/
حين كان القميص مشجراً.
هكذا ينطق عني صديقكم الراحل جيلاني طريبشان، يلفني صمت، نبت كالشوك في الحلق، وفي مكاني أنبت عوسجاً، لا أتزحزح، فقد وقعت في قبضة الكرب التالي لليقظة.