Atwasat

شعب تحت قبة حديدية

سالم العوكلي الثلاثاء 04 يوليو 2023, 10:49 صباحا
سالم العوكلي

ما حدث ويحدث، وسيحدث، لأمدٍ غير معلومٍ في فلسطين المحتلة، يثير سؤالاً أخلاقياً كونياً حيال ما سعت البشرية إليه من تأطير سُلّم قيَمي عالمي وأكّدت على تنفيذه بقوانين واتفاقات دولية، وهذا السؤال المحوري ما يثير قلقاً إنسانياً تجاه مصداقية هذا النظام العالمي الذي تقوده دولة بنَت كيانها من المهاجرين على أنقاض أمة أخرى، أُبيد معظمها ومن تبقى يعيش في الهامش كحفريات أو عاديات في متحف الحضارة الجديدة، وهذا التشابه بين أميركا وما يُسمى إسرائيل هو الذي سيصيب طموح القيم الجديدة في مقتل، ويجعل من القوى المتغنية بالأخلاق تفعل كل ما بوسعها لجعل هذه القيم شعاراً يُرتكب من خلاله كل ما يتناقض معها، ولأن الأغاليط فتاكة حين تتعدى الإطار النظري إلى الفعل الإجرائي، فالفلسطينيون ــ سكان الأرض الأصليون ــ محاصرون في وطنهم المغلق حتى في اتجاه السماء، والشعب الصهيوني المستورد يعيش تحت قبة حديدية، وهو وضع يتعارض مع الطبيعة، وضد كل منطق من الممكن أن نحاول تدبره ببعض النقاط الآتية من أجل محاولة تبيين هذه الأغاليط وفحص سلسلة من المفارقات التي من طبيعتها أن لا تصمد أمام سرد التاريخ المخلص لمنطقه:

ــ إن ما يسمى دولة إسرائيل تشكل كياناً ضد خبرة التاريخ وقوانين الجغرافيا كمعطيين أساسيين لتعريف الدولة. فهي كيان ضد التاريخ باعتبارها تشكلت عبر مخطط خبيث من الدول الكبرى التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية، بجلب محتواها البشري من هويات أخرى لا يجمعها سوى الدين، وتوطينهم قسراً في أرض حافلة بسكانها الأصليين، وعقد جلسة مشبوهة في منظمة الأمم المتحدة والاعتراف بدولة خُلقت من العدم على أسس دينية، بل على عقيدة من الخرافات التي لم تشفع لها الحفريات. وهي ضد منطق الجغرافيا لأنها (دولة) دون حدود حتى الآن، وحدودها تتوسع وفق موازين القوى، ولا أحد حتى الآن يعرف أين ستتوقف هذه الحدود، ولا يمكن منطقياً الاعتراف بدولة دون خارطة. فجلب يهود من جميع قارات العالم وتسمية وطن لهم في قلب وطن آخر متجانس لغوياً وثقافياً واجتماعياً يتعارض مع أي مبدأ تاريخي أو جغرافي أو عمراني.

ــ تحويل المحرقة النازية إلى كربلاء يهودية واتخاذها مبرراً لكل التصرفات غير الأخلاقية لضحاياها بما فيها المجازر التي ارتكبتها، والاغتيالات المستمرة كإحدى أقذر أنواع إدارة الصراع مع الخصوم، فكثير من الأعراق والمذاهب تعرضت إلى عمليات إبادة عبر التاريخ، لكنها لم تستغل هذا التاريخ كي ترتكب نفس أعمال الإبادة ضد أمم أخرى، وفكرة تحنيط المآسي ووضعها نصب الأعين، وتطقيس البكاء كما في يوم عاشوراء أو حائط المبكى اختراع سيكولوجي يسعى للاحتفاظ بالأحقاد وتأبيد الكراهية.

ــ بغض النظر عن كل هذا الضخ الإعلامي، وعن تسويغ الشرور انطلاقاً من مبدأ الرفق بالضحية التاريخية، وعما يُسنُّ من قوانين استثنائية عنصرية تحصّن ديناً واحداً تجاه أي نقد أو تفكر بخصوصه (معاداة السامية)، فإن ثمة مفاهيم وقيما لم تتغير منذ أن اكتشف البشر جوهرهم الإنساني وقابليتهم للتمدن التي تجعلهم مختلفين عن كائنات الغابة المتوحشة: فالاحتلال سيظل احتلالاً ولا مسوّغ مذهبياً أو تاريخياً أو تطهرياً له، والمقاومة كنزوع غريزي ستظل مقاومة مقدسة، ليس عن الوطن فقط، ولكن عن البيوت وأشجار الزيتون الممتدة جذورها منذ آلاف السنين مختلطة برفات وعظام أهل الأرض في كل شبر.

ــ الاستيطان مصطلح استعماري مرتبط بغزو أملاك الآخرين وانتهاك حقوقهم، وأرخبيل المستوطنات الذي يبنيه الصهاينة عبر خارطة فلسطين يقوّض كلّ توجه إلى حل سلمي، وهذه المستوطنات المختارة مواقعها بعناية من أجل هذا الهدف، وما يسمى حل الدولتين مجرد اقتراح دولي يحفظ ماء وجه هذه القوى إلى أجل محدود، ثم كما فعل الصهاينة دائماً ستكون سياسة الأمر الواقع وانتهاز الفرص هي القانون الوحيد الذي يحكم شرعية هذا الاحتلال، ومتى كان لأي احتلال شرعية أو قوانين.

ــ هذا الجسم الشبيه بالورم السرطاني الذي زُرع في قلب الجغرافيا الناطقة بالعربية والمتجانسة اجتماعياً وثقافياً إلى حد أسبغ عليها اسم «الأمة» عبر تاريخها، تمخض عن التباسين كبيرين فيما يخص النشأة وما يخص الصيرورة، وقد توجه إلى نقد هذه الفكرة، وما تمخض عنها من وهم قد يطول أو يقصر، كاتبان يهوديان يحذران من مصير هذا الصراع على مجتمع مصطنع جاء من ثقافات مختلفة، ولا شيء يربطه سوى بعض خرافات توراتية تبناها المجلس الصهيوني ثم الغرب المصاب بعد الحرب العالمية الثانية بما يسمى «متلازمة الضمير الأوروبي المعذّب»:

الكاتب النمساوي (اليهودي) ستيفان زفايغ الذي انتحر العام 1942 مع زوجته بعدما شهد أوروبا «موطنه الروحي» تعاني ويلات الحرب العالمية الثانية و«تدمر نفسها»، حسبما جاء في رسالته الوداعية، يقول في كتابه (عالم الأمس): «إذا كان أدولف هتلر، في عماه العنصري الإجرامي، قد رأى (الحل النهائي) في وضع اليهود في معسكرات اعتقال تضمن موتهم البطيء، أو حرقهم في أفران الغاز؛ فإن (الحل النهائي) الذي تقدّمه النخب الأوربية، والحركة الصهيونية، هو تجميع اليهود في جيتو أو معسكر اعتقال عالمي اسمه (إسرائيل)، يُنقل إليه اليهود بعد نزعهم من مجتمعاتهم المحلية الأوروبيّة».

أما الصيرورة، أو الوهم الذي تتغذى عليه هذه الدولة المزعومة، فيتوجه إليه كاتب (يهودي) آخر (أري شبيت) في مقالة نُشرت في صحيفة هآرتس بقوله:

«الإسرائيليون منذ أن جاؤوا إلى فلسطين، يدركون أنهم حصيلة كذبة ابتدعتها الحركة الصهيونية، استخدمت خلالها كل مكر في الشخصية اليهودية عبر التاريخ. ومن خلال استغلال ما سُمي الهولوكوست على يد هتلر وتضخيمها، استطاعت الحركة أن تقنع العالم بأن فلسطين هي أرض الميعاد، وأن الهيكل المزعوم موجود تحت المسجد الأقصى، وهكذا تحول الذئب إلى حمَل يرضع من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والأوروبيين، حتى بات وحشاً نووياً».

ورغم هذا المنشأ الغريب لهذا الكيان الذي جاء محمولاً على خرافات عدة، إلا أن (شبيت) يشير إلى أن صيرورة هذا الأمر الواقع المضاد للتاريخ رهن بتغيير كل استراتيجيات البقاء، وينبه إلى خطورة سياسة الاستيطان الذي يتمدد في جغرافيا خطرة: «ليست الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي هما اللذان سيوقفان الاستيطان. القوة الوحيدة في العالم القادرة على إنقاذ إسرائيل من نفسها، هم الإسرائيليون أنفسهم، وذلك بابتداع لغة سياسية جديدة، تعترف بالواقع، وبأن الفلسطينيين متجذرون في هذه الأرض».

في مقالته «تحول القبة الحديدية إلى كسكاس» المنشورة ببوابة الوسط 23 مايو 2023، يذهب الكاتب عمر الككلي إلى وصف الجوهر الوجودي لهذا الصراع بقوله: «في حالة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين يأخذ الأمر، بسبب خصوصية هذا المشروع، أبعاداً إضافية. أبعاداً وجودية، إن صح التعبير. فمنذ بدايته، أي قبل تنصيب دولة إسرائيل، تعرض هذا المشروع للمقاومة من قبل الفلسطينيين، وما انفكت هذه المقاومة حية وفاعلة عبر حوالي قرن وربع. إن هدف هذا المشروع هو التخلص من الشعب الفلسطيني بالإبادة والاقتلاع، وهذا لم يتحقق. كما أن هدفه هو تحقيق الأمن والاستقرار لهذا الكيان الاصطناعي بهدف تأبيد وجوده، وهذا أيضاً لم يتحقق».

وكل هذا لا يُغيب خطأً استراتيجياً أرتكبته وما زالت ترتكبه خطابات المقاومة الفلسطينية في العقود الأخيرة، وأخطرها تحويل هذا الصراع من بُعده الوجودي إلى صراع ديني بحت يكاد يلغي أهمية المكان، ويُحل الأسطورة محل التاريخ، وهو أمر في صالح الصهاينة طالما هو خطاب يعتمد الخرافة ويستبدل مصطلح المقاومة المرتبط بالدفاع عن الأرض بمصطلح الجهاد المرتبط بفتح الأراضي ونشر العقيدة. فمسألة احتلال أرض فلسطين من قبل مهاجرين أو مُهجّرين جُلبوا من هويات سياسية مختلفة من العالم هي مسألة أخلاقية إنسانية وليست دينية. ومن جانب آخر، يقلّص هذا الاختزال الإسلاموي لاستراتيجية المقاومة عناصرَ مقاومةٍ أخرى من سكان فلسطين المتجذرين من غير المسلمين، مثلما قوّض من دور العديد من الفصائل العلمانية واليسارية التي صُفّيت تقريباً، وكان منطلقها في المقاومة وجوديا/ إنسانيا/ أخلاقيا، فضلاً عن كونه متسقا مع منطقي التاريخ والجغرافيا، استطاع لفت أنظار المثقفين والمناضلين من كل قارات العالم، أهمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تقريباً صفاها النزوع الإسلامي الجهادي، الذي بقدر ما أقصى مكونات نضال أخرى، وضع المقاومة عبر هذا القاموس الذي تستخدمه في سياق أيديولوجي مشبوه، ليس لدى متخذي القرار فقط، ولكن لدى غالبية الرأي العام العالمي المصاب بفوبيا هذا القاموس اللغوي، والذي ما زالت تزعجه الحروب القائمة على أساس ديني.