Atwasat

صديقي حُسن الحظ

جمعة بوكليب الأربعاء 14 يونيو 2023, 11:50 صباحا
جمعة بوكليب

حُسن الحظ أنواع. وأفضلها، حين يتذكرك بعد نسيان طويل، ويقرر أن يَجبر بخاطرك، ويختارك لتكون صديقه، ولو لفترة زمنية قصيرة. وحين يفعل ذلك، يأتيك فجأة طائراً على جناحي صدفة، في مساء لندني صيفي بديع، ويخطفك من ضجر روتينك اليومي، ثم يحطّ بك في جلسة ماتعة مع صديق أو أصدقاء.

في الأسبوع الماضي، كنت على ما يبدو على رأس قائمة أصدقاء حُسن الحظ. حين اختطفني فجأة وحطّ بي في مطعم تركي في منطقة كنجستون على نهر الثيمز، لأقضي وقتاً ممتعاً صحبة صديقي الكاتب الصحفي الفلسطيني - الليبي بكر عويضة.
صديقي بكر عويضة كان هو الآخر، في وقتٍ مضى، على قائمة حسن الحظ، في واقعة غيّرت مجرى حياته في بداية حياته المهنية في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة. عملية اختطاف بكر أشبه بعملية كوماندوز، وحطّ به حُسن حظه في مدينة بنغازي، في وسط فريق أسرة تحرير صحيفة الحقيقة.

حُسن الحظ المعني تمثّل في أن الشاب القادم من مدينة غزة، مروراً بالقاهرة، ثم دمشق، والعودة إلى القاهرة، وصل إلى مدينة بنغازي عن طريق البر، في فترة تاريخية تُعد مفصلية ومهمة في تاريخ ليبيا عموماً، وفي تاريخ مسيرة الصحافة الليبية خصوصاً. ونعني بذلك العام 1968، أي قبل عامٍ من استيلاء الجيش على السلطة، في انقلاب سبتمبر عام 1969.

وبذلك أُتيحت له فرصة استثنائية. جعلت منه شاهد عيان على مرحلتين صحفيتين وتاريخيتين في ليبيا. وكان حسن حظه قوياً، لأنه انضم عقب فترة قصيرة من وصوله، إلى فريق تحرير واحدة من أهم الصحف المستقلة التي عرفتها لبييا، وهي دار الحقيقة. وكانت مدرسة صحفية بذاتها، تخرّج منها عديدون، وكتب في صفحاتها أشهر كُتّاب ليبيا وأدبائها، وغيرهم من الصحفيين العرب، وفي مقدمتهم الصحفي اللبناني سمير عطا الله، أطال الله عمره.

اللقاء مع كاتب صحفي بخبرة بكر عويضة، لابد وأن ينعطف نحو شارع الصحافة. وكوني ليبيّاً، وأصغر منه سناَ وأقل خبرة ، لابد وأن يترك فضولي قوقعته، ويفرض حضوره عليَّ، ويجعلني مستمعاً باهتمام إلى ما يرويه بكر من حكايات عن بنغازي، وعن دار الحقيقة، وعن الكتّاب، والمسؤولين الليبيين آنذاك.

بكر، متّعه الله بالصحة والعافية، في النصف الثاني من السبعينيات من عمره، وما زال ينشر مقالات أسبوعية في صفحة الرأي بصحيفة الشرق الأوسط. وما زالت ذاكرته نشطة، وأرففها تفيض بمختلف الحكايات.

حُسن حظ بكر عويضة أنه عرف ليبيا قبل أن تتغير وتتحول إلى كابوس عسكري. وأنه على صغر سنّه، وقلة خبرته الحياتية، اختار العمل في بلاط صاحبة الجلالة، مضحياً بدراسته الجامعية في كلية التجارة والاقتصاد بجامعة القاهرة. حيث كان يدرس بمنحة دراسية على حساب وكالة الإغاثة الدولية، المعروفة اختصاراً باسم الأونروا.

علاقة بكر المهنية بآل الهوني في دار الحقيقة، جاءت به فيما بعد، أي عقب تأميم الصحافة في ليبيا، إلى بريطانيا، ليكون ضمن فريق العاملين مع الصحفي المخضرم المرحوم رشاد الهوني في صحيفة العرب، وهي أول صحيفة عربية تصدر بالمهجر الأوروبي. وأصبحت مدرسة صحفية، التحق بها الكثير جداً من الكتاب الصحفيين العرب في المهجر. وكان بكر من ضمنهم.

خلال الجلسة تلك، كنت حريصاً على إثارة اهتمام صديقي بكر إلى نقطة مهمة، وهي أن سيرته الذاتية كصحفي شهدت بدايتها في ليبيا، وأنه من الأجدى له، ومن الأفضل لنا كليبيين، أن يجد الوقت ويوثقها في كتاب. وفوجئت حين أخبرني أنه قام فعلياً، مع صحفي عربي آخر، بتسجيل ست ساعات، وتفريغها بعد ذلك على الورق. إلا أن العملية توقفت عند ذلك الحدّ، لغياب ناشر يتولّى إتمام العملية.

ويظل من أجمل ما رواه لي في تلك الجلسة من ذكرياته، حكاية ليلة الانقلاب في 1/ 9/ 1969، حين أنهى عمله بمطبعة جريدة الحقيقة، عائداً إلى البيت الذي يقيم فيه، في منطقة البركة، مع عدد من زملائه العاملين في الصحيفة. ويذكر بكر أن الساعة كانت قرابة الثالثة صباحاً، حين ظهر له فجأة من الظلام جندي مسلح، وطلب منه التوقف، وسأله عما يفعل في تلك الساعة المتأخرة من الليل.

فأبلغه بكر أنه في طريقه إلى البيت بعد انتهاء نوبة عمله في الجريدة. فسمح له بمواصلة السير، وحذرّه من مغبة إخبار أي شخص بما رأى. قال بكر «كنت أول صحفي في العالم يعلم بحدوث الانقلاب». ولدى رجوعه إلى البيت، دخل حجرته، ونام. وفي الصباح أيقظه زملاؤه من النوم، وأبلغوه بحدوث انقلاب عسكري في البلاد. قال لهم ضاحكاً «أعرف ذلك». وحكى لهم ما دار بينه وبين الجندي، وعاد لاستكمال نومه.