Atwasat

في المحطة

عبدالله الغرياني الثلاثاء 16 مايو 2023, 10:01 صباحا
عبدالله الغرياني

ألمانيا، وفي عاصمتها ولاية برلين بمنطقة فليمرسدورف - «شالوتنبوغ» الغنية بالمباني القديمة والعريقة التي تعود إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وحتي الذي دمر منها أعاده الألمان كما هو، تأتي محطة هايدلبرغ بلاتس Heidelberger Platz، المحطة العريقة التي تم افتتاحها في 12 أكتوبر 1913 وعمل على تصميمها المهندس الألماني «فيلهلم ليتغيبل»، وتعتبر من أروع محطات مترو الأنفاق في ولاية برلين، ويتم أحيانا ذكرها في بعض الأدبيات ومقارنتها بمحطات موسكو في ثلاثينيات القرن الماضي حسب ما ذكر موقع (ويكيبديا)، وعند الدخول إليها من إحدي بواباتها الرئيسية تتوقع أنك دخلت كاتدرائية عريقة تحت الأرض. ستجد الأعمدة المنحوتة والبلاط الساحر. تعمل في المحطة شركتان للمواصلات في الأعلى محطة يعمل بها ميترو يعرف بالإسبان (S-Bahn) وتحت الأرض، حيث قصتنا في هذه المقالة، ميترو الأنفاق الذي يعرف هو الآخر بالأوبان « U-Bahn». مررت أول مرة من هذه المحطة مع الصديق الراحل توفيق بن جميعة وابنه محمد في العام 2018، متجهين إلى منزل صديقنا فتحي الشيخي الذي على بعد كيلوات من هذه المحطة، توقفت من الدهشة ولم أستوعب الجمال المعماري المدفون تحت الأرض، رغم تعودي في هذا البلد على رؤية الأشياء المدهشة التي تظهر أمامي في كل خطوة أخطوها تثبت لي الروعة العقلية الألمانية في الهندسة المعمارية العريقة، وقفت لأخذ الصور للمحطة وتوثيق كل زاوية بها، مرت الشهور والسنوات حتى علمت أن في هذه المحطة يملك شاب ليبي المقهي الذي يتوسطها ويديره بعمال ليبيين وأجانب من جنسيات مختلفة وألمان يقومون جميعهم بتحضير المعجنات والحلويات بأنواعها المختلفة مع القهوة والمشروبات الباردة، واسم المقهي «بانجور برلين» صباح الخير برلين بالفرنسية دلالة على عدد من الأصناف الفرنسية التي يعرضها المقهي للزبائن، كان لي صديق عزيز وهو شاب نشط اسمه «سعد» أتى إلى ألمانيا لتحقيق رغبته في دراسة الطيران، ولكن الظروف منعته من استكمال دراسته بسبب تكاليف الدراسة الباهظة، التي يصعب تسديدها نظراً إلى ارتفاع سعر الصرف في ليبيا وصعوبة تحصيل المبلغ من خلال العمل الجزئي في ألمانيا.

عمل صديقي سعد باجتهاد في المقهي حتي كاد يقضي نصف أو أغلب النهار به، كنت أتردد عليه لشراب القهوة سريعا كون المقهي أسفل الأرض ولا توجد به أماكن للجلوس والاستمتاع بالقهوة والتدخين، ولأننا كنا مثل الأسرة الواحدة كان الراحل توفيق بن جميعة يقوم أحيانا عندما يحضر طبقا شهيا يحضر منه لسعد في المقهى، تطورت زياراتي لسعد لأسباب متعددة ولقربه مني، وأصبح يضيفني بالجلوس داخل المحل لشراب القهوة والحديث عن أحوالنا وأحوال البلد غالبا، ولكون سعد يعمل وحيدا في المقهي فلا يمكنه مغادرته للراحة أو الذهاب لدورة المياه، وضعني في إحدى زياراتي له أمام تحد مخيف وطلب مني البقاء في المقهي الصغير الذي يطل على خطين للسكة الحديد من اليسار واليمين وقال لي «كل شيء مكتوب عليه سعره»، ذهب سعد لدورة المياه التي تقع على بعد أمتار داخل المحطة ووجدت نفسي في احتكاك مباشر مع زبائن، وأتت سيدة أتذكرها وطلبت مني قطعة خبز صغيرة الحجم معها قطعة «مافن بالشكولاتة» جمعت لها القيمة ودفعت وأرجعت لها المتبقي حتى عاد سعد سريعا، فهمت وكونت فكرة سريعة، ولكن لم أستوعب أني قد أكون مسؤولا بنفسي عن هذا المقهي في يوم من الأيام أعمل به بمفردي وأنا بساق واحدة والأخرى أشبه ما تكون مشلولة، بسبب إصابتي في استهداف إرهابي، لعدة عوامل، فالمقهي به نافذتان يأتي إليهما الزبائن لشراء ما يحتاجونه، وهذا الأمر شبه معجزة بالنسبة لي، ولكن بعد مرور الوقت كان يطلب مني سعد الحضور إذا كنت متفرغا للبقاء دقائق في المقهي حتى يقضي بعض الوقت لشراء بعض اللوازم للمقهى، وأصبحت أتعامل بمهارة مع الزبائن، والبعض منهم كانوا مشجعين لي ويتركون قيمة زائدة من المال كنوع من الدعم، ومع مرور الوقت شجع صاحب المقهي «الأصيل» فكرة بقائي في المحل ولظرف طارئ قرر سعد مغادرة ألمانيا والعودة إلى ليبيا ليتسلم شقيقه معتز المقهي، وأصبحنا مثل الشركاء في العمل وتجاوزنا العرف الطبيعي في الإدارة، أتسلم المقهى لساعات وفور تسلمي له أقوم بإجراء مسح كامل للنظافة، ثم تحضير بعض النواقص لأتفرغ بعدها لخدمة الزبائن، وهنا كانت نافذتي التي رأيت وتعاملت من خلالها مع أغلب شرائح المجتمع الذين يتنقلون شبه يوميا بين القطارات للذهاب والعودة من أشغالهم، يأتي إلينا الأطباء والمهندسون والعمال والطلبة والسواح من مختلف أنحاء العالم، أتعامل معهم جميعاً بمهارة ولطف دون إزعاجهم أو تعطيلهم.

نافذة يتحدث فيها البعض عن همومه وهو ينتظر لأخذ قهوته ويأتي إليها بعض المشردين يطلبون شيئاً بالمجان يسدون به جوعهم، يسألني البعض من أين أنت ليتعرفوا على بلدي، وفي هذا سؤال عرفت أن الكثيرين لا يعرفونها أو يجهلون موقعها، يقف أمامي الأطفال الذين يطلبون من أهاليهم شراء بعض الحلويات وأصبحت أستوعب رفض الأهالي لسبب نظام صحي متبع مع الطفل أو بسبب مادي لأقوم مباشرةً بمعالجة الأمر وإعطاء الطفل الشيء الذي يريده وأسدد ثمنه من جيبي الخاص، هناك بعض الأطفال والمسنين يقفون أمامي ويسألونني عن ثمن شيء ثم يقومون بعد المال الصغير الذي بين أيديهم وعندما يكتشفون أنه قليل ويعتذرون عن عدم الشراء أتدخل وأسألهم كم معك يقول كذا أرد عليه وأقول خذ وهات المال وأعوض الباقي من جيبي، زاد هذه المقهى إيماني بالعطاء ومساعدة الناس وجبر خواطرهم، فعندما أعطي شيئاً أعوض قيمته من جيبي وأتابع الزبون عندما ينصرف أتابعه فأجده مبتسما أشعر حينها بسعادة رهيبه، ذات مره أتى ثلاثة شبان مراهقين طلب كل شخص منهم طلبه وسددوا بشكل فردي. الثالث وقف ولم يطلب شيئا. سألته أنت لست جائعا..!! أجابني لا، لا يوجد لدي مال. فقلت له لا سوف تأخذ ما تريد. فطلب مثل طلب أحد اصدقائه. فأعطيته. شكرني وانصرفوا وأصبح يبتسم مع أصدقائه. أرتاح كثيراً في هذه المواقف مع نفسي. أقول لأصدقائي: الذي يدخل في الجيب اليمين يجب أن يخرج جزء منه من اليسار ومهما جمعنا من مال ستبقى إنسانيتنا تطالبنا بالعطاء مقابل إسعاد الآخرين ولو على حساب أنفسنا.

عراقة المحطة جعلتها قبلة لكل الموهبين الذين يأتون ومعهم الآلات الموسيقية للعزف والغناء للركاب الذين يقدمون لهم المال كتسجيل لإعجابهم بهم، وأقدم لهم أنا كذلك القهوة على حسابي كوني استمتعت خلال عملي بما قدموه من لوحات موسيقية رائعة، أيقنت بأن العلاقة مع زبون يجب أن تكون في حدود البيع والشراء وفي إطار إنساني قبل أن تكون ماديا. وفي مرات عديدة يكتشف الزبائن بغير قصد أن المال الذي لديهم لا يكفي لسداد حاجتهم والمقهى لا يقبل السداد بالبطاقات المصرفية فأقوم بإعطائهم ما يحتاجونه وأطلب منهم إحضار المال في المرة القادمة. وهذا التصرف نادراً ما يحدث في العاصمة برلين، وأحياناً أقول للزبون تقبل هذا الشيء هدية مني ولا ترجع لسداد ثمنه وأقوم بدفعه من جيبي، فأنا هنا إنسان قبل أن أكون بائعا. فهو محتاج لشراب القهوة أو لأكل شيء حتى يكمل طريقه إلى عمله أو بيته، وأصبحت المحطة نقطة فتحت أمامي أبوابا كبيرة لبرلين وسكانها وأنواع البشر الذين يعيشون بها، تجاوزت في هذه المحطة حدود الإعاقة والعجز، أثبت لنفسي ولمن يأتون إلى نافذتي أنني قادر على تجاوز ذلك. يسألني بعض الزبائن عن أسباب الإصابة. أتحاشى الإجابة كثيراً، وأحياناً أسرد لبعضهم القصة ليقفوا مصدومين من هول ماسمعوه وأردد لهم هذا هو الإرهاب، لا يميز بيننا جميعاً سواءً مسلمين أو مسيحيين أو من باقي الأديان والعبادات.

غادرت المقهى وتركته لأسباب صحية عندما اشتدت علي الآلام، وبنصيحة من الأطباء الذين حثوني على البقاء في راحة تامه لأطول وقت، وعدم إجهاد الجسد كثيراً، لأعود تدريجياً للكتابة وقضاء الأيام في اهتماماتي التي أحبها والتحصيل المعرفي.