Atwasat

فصل من رواية لم تكتمل

أحمد الفيتوري الثلاثاء 09 مايو 2023, 01:13 مساء
أحمد الفيتوري

كتبت ما كتبت وكأني في وادي عبقر الأسطوري، ما ذكره العرب في مأثورهم، باعتباره مسكن شياطين الشعر ملهم الشعراء. قرأت ما كتبت باستخفاف، واعتبرته من حماقات الكتاب، حين ينفلت منهم زمام الكتابة، فما دونت لم يخطر في البال، تبين لي أنه كما رواية تنوي أن تكتب نفسها، وأني أداتها ليس إلا. الروائي عُرف كمتشكك وكذاب، ولم أكن كذلك، فحذفت ما نما كمشروع رواية، في دهاليز ذاكرة الكومبيوتر، ومع الأيام أخذ يطاردني مثلما خبر الفتاة الفرنسية، التي بدأتُ كما عاشق لم يلتقِ بها، حيث لم أحتفظ من تفاصيل الخبر، الذي انتشر عبر الإنترنت، إلا بصورة تبرز مفاتنها.

فتاة القطار التي جلست بجانبها لاعتبار أرقام الكراسي، لمّا انطلق القطار بأقصى سرعته، منحتني علبة عصير بارد رغم أن الجو شديد البرودة، الفتاة تبدو قطة ناعمة تنساب فيك بيسر، لذا احتسيت البارد، رغم أن طبيبي ألحّ أن لا أشرب غير الفاتر، حالة النقاهة من العملية الجراحية ما أجريت تتطلب ذلك.

غير أن فتاة القطار اكتسحتني برقة وشفافية، وانفتحت عليّ وكأننا عشاق، خلال الرحلة عرفتها وتفاصيل حياتها، حتى أن يديها كانتا بين يدي وجسدانا تماسّا واحتكّا في انسياب، لقد أذهلتني عفويتها فتمنيتها حبيبتي، ما فعلته معي وما فعلته كان كما تصوري للقاء حواء وآدم. في غمار هذا اللقاء العابر، ما انتهى عند نزولنا من القطار فودعتني دون أن أفطن، لذا لم أطلب رقم موبايلها ولا عنوانها، فقط عرفت اسمها الأول ما هو كنيتها. هذا الملاك الذي استولى على كياني، عزمت على الخلاص منه، أردت نسيانه فكتبت رواية «بيض النساء».

الصورة تحولت إلى تعويذة، تشدني غصبًا، إلى ما حذفت في الكومبيوتر، الذي حذفت منه ملفات وأضفت إليه الكثير منها ومن الصور، لهذا ضاع مني ملف ما كتبت، ما لم أضع له أي عنوان ولا علامة. فضيعت اللبن في الكومبيوتر، واستنزفت الجهد في البحث، غدوت مثل فتاتي، ضائعا في إمبراطورية الرمال أو الكلمات، لا فرق عندي بعد أن غرقت ولا منقذ لي غيري.

عزمت علي أن أنفك من حبائل، حاكتها نفسي الشغوفة، تذكرت قولاً رائجًا، «أنك لا تستطيع نسيان قصة حب إلا بقصة حب أخرى»، وبيني وذاك ما بين النار والماء، فوليت وجهي أستعين بالشعر، ولم يكن ثمة خمر متيسر، فكان الملاذ ما صاغه الشاعر أبونواس:
دَعْ عَـــنْــكَ لَــوْمِــي فَــإِنَّ اللَّــوْمَ إِغْــرَاءُ
وَدَاوِنِــي بِــالَّــتِــي كَــانَــتْ هِــيَ الــدَّاءُ

صَــفْــرَاءُ لَا تَــنْــزِلُ الْأَحْــزَانُ سَـاحَـتَـهَـا
لَـــوْ مَـــسَّــهَــا حَــجَــرٌ مَــسَّــتْــهُ سَــرَّاءُ

مِـــنْ كَـــفِّ ذَاتِ حِــرٍ فِــي زِيِّ ذِي ذَكَــرٍ
لَــــهَــــا مُــــحِـــبَّـــانِ لُـــوطِـــيٌّ وَزَنَّـــاءُ

قَــامَــتْ بِــإِبْــرِيــقِــهَـا وَاللَّـيْـلُ مُـعْـتَـكِـرٌ
فَــلَاحَ مِــنْ وَجْــهِــهَـا فِـي الْـبَـيْـتِ لَأْلَاءُ

كَـــأَنَّـــمَــا أَخْــذُهَــا بِــالْــعَــيْــنِ إِغْــفَــاءُ
رَقَّــتْ عَــنِ الْــمَــاءِ حَـتَّـى مَـا يُـلَائِـمُـهَـا

لَــطَــافَــةً وَجَــفَــا عَــنْ شَــكْـلِـهَـا الْـمَـاءُ
فَــلَــوْ مَــزَجْــتَ بِــهَــا نُــورًا لَــمَــازَجَـهَـا

حَـــــتَّــــى تَــــوَلَّــــدَ أَنْــــوَارٌ وَأَضْــــوَاءُ
دَارَتْ عَــلَــى فِــتْــيَـةٍ دَانَ الـزَّمَـانُ لَـهُـمْ

فَـــمَـــا يُـــصِــيــبُــهُــمُ إِلَّا بِــمَــا شَــاءُوا
لِــتِــلْــكَ أَبْــكِــي وَلَا أَبْــكِــي لِــمَــنْــزِلَـةٍ

كَـــانَــتْ تَــحُــلُّ بِــهَــا هِــنْــدٌ وَأَسْــمَــاءُ
حَــاشَــا لِــدُرَّةَ أَنْ تُــبْــنَـى الْـخِـيَـامُ لَـهَـا

وَأَنْ تَـــرُوحَ عَــلَــيْــهَــا الْإِبْــلُ وَالــشَّــاءُ
فَـقُـلْ لِـمَـنْ يَـدَّعِـي فِـي الْـعِـلْـمِ فَـلْـسَفَةً

حَـفِـظْـتَ شَـيْـئًـا وَغَـابَـتْ عَـنْـكَ أَشْـيَـاءُ
لَا تَـحْـظُـرِ الْـعَـفْـوَ إِنْ كُـنْـتَ امْـرَأً حَـرِجًا
فَـــإِنَّ حَـــظْـــرَكَـــهُ فِـــي الــدِّيــنِ إِزْرَاءُ

إذا كانت الخمر سلوى أبى نواس، وأن الخمر خلاصه من الخمر، فإن الخمر والليل والبيداء، ما يجعلني أسير فتاتي، فالرواية كما النداهة أتبعها أثناء نومي، في المنام أكتبها وأحلم بالفتاة تداعبني وتحثني على أن أكتبها. أتقلب في سريري ما صار من جمر، وأصاب نومي القلق حتى أشعر أني لا أنام، أحس مكابدة الكتابة تغمرني، فكأن نومي صحو يغطني، وإن غفوت عن الكتابة بنوم عميق، أغرق في عباب كابوس تلطمني أمواجه، حتى يتصبب عرقي، كانت الكتابة حينها الوحي يتنزل، وكنت في منزلة بين منزلتين، صحو النائم ونومة الصاحي.

فإذا أصبح الصبح تموت الرواية، وتضيع الفتاة الفرنسية في غمرة زحمة اليوم. كتائهٍ في صحراء، لا توقظني من سباتي غير سياط النهار اللافحة. مرة واحدة في نهار يشبه الليل الدامس، بعد انقطاع الكهرباء ما أمسى معتادًا هذه الأيام، مرة ليس إلا أسرني كابوسها، ما انتشلني العقل السائل من موجه العاتي، هل يعقل أن يحب الرجل ما لا يعرف؟، أن يحب الكاتب إمرأة من خلق خياله؟ .

ملهمتي أن أكتب ما كتبت وقعت في هواها، الواقعة القارعة لن تنهضني منها غير الكتابة، فقلت في نفسي لمَ يكتب الكتاب عن هو أي هو، لمَ لا أكتب عن أنا وأمحو الهو؟ لمَ أتخيل ما أسرد، وأنا مكون من تخيلات جمة، وما فيّ من حقائق يشبه الحياة ما لم أحيَ، التي هي مثلما الانفجار العظيم حقيقة لا معقولة.

وقد حدث حين كنت في الصحراء، فكتبت ما كتبت، أن كنت سكرانًا أو شُبّه لي، فالصحراء دوّخت البشر، ليس بسرابها فحسب بل وبتقلباتها وتطرفها، تكرارها المميت، ما يجعلك تظن أن قد طوحت خلفك مسافات، أنك تقرب الهدف بالمسير، فإذا بك تدور وتدور كثور الساقية، فالصحراء غاوية وهاوية العقل، حتى ظن بشر أنهم أنبياء، وأن الله زودهم بالخوارق، فكانوا كالمتنبي شاعر العرب، مَن فيما بعد تعقل، فرمى عنه النبوة ليكون الشاعر.

قلت لنفسي اللوامة، الرواية التي أوقعتني في حبائلها صورة فتاة مثيرة، ليست رواية البتة، هذه الرواية استرسال وتداعٍ سأتخلص منه بكتابة سيرتي، ما يُلح أصدقائي وحبيباتي أن أكتب. مزقت صورتها متذكرًا، أن أول صورة فتاة حصلت عليها، بالنواجذ حافظت عليها، في جيبي مستيقظًا أو نائمًا، لا أخرجها إلا حين أبغي إغاظة صبي مثلي، لم يرَ في حياته صورة، فما بالك أن يمتلكها.

أبي مازح صديقه وزبونه العامل اللبناني نخلة الأشقر، حول أن ابنه الصبي فحل، فجلب له هدية، اسطوانة فيروز «غنيت مكة» وصندوقا من البقلاوة اللبنانية، إن أردته فصاهرني وامنحه ابنتك. في اليوم التالي جاءني عمي نخلة الأشقر وأخذني جانبًا، ثم أراني صورة ابنته، قائلاً هذه لك، ربطت الدهشة لساني، صورة لفتاة جميلة مثل الفتيات اللواتي رأيتهن في السينما، بخجل طفولي أخذت الصورة وهربت إلى الشارع، ثم خبأت جسدي في جبّ غابة الأشجار الميتة.