Atwasat

تأملات في كيان هش (2/4)

عمر الكدي الإثنين 20 مارس 2023, 02:27 مساء
عمر الكدي

وسم الصراع بين القيم البدوية والقيم الحضارية الثقافة العربية بعمق، حتى إننا لا نستطيع تفسير الظواهر الاجتماعية والدينية والثقافية دون الأخذ على محمل الجد هذا الصراع. يبدو ذلك واضحا في الصراع بين مدرستي العقل والنقل فيما عرف بعلم الكلام، فالذين انحازوا للعقل مثل المعتزلة والفلاسفة ظهروا في بغداد، والذين انحازوا لمدرسة النقل ظهروا أيضا في بغداد وعلى رأسهم أحمد بن حنبل وفقهاء السنة وأيضا الشيعة، واشتد هذا الصراع في زمن الخليفة العباسي المأمون، حيث واجه ابن حنبل محنته لأن المأمون انحاز للمعتزلة، قبل أن يأتي المتوكل فيناصر الحنابلة وتبدأ محنة المعتزلة.

انحياز المعتزلة للعقل هو انحياز للمنطق الأرسطي وتقاليد الكتابة، وانحياز الحنابلة للنقل هو انحياز لقيم المشافهة والتقاليد البدوية. كان من الممكن أن يظل هذا الصراع حبيس الكتب، حتى جاء عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، ليوضح في كتابه المميز "شخصية الفرد العراقي" أن هذا الصراع لم ينته بعد وما زال مستمرا، ويضرب الوردي عشرات الأمثال على أن العراقي يعاني من ازدواجية في الشخصية، التي هي مزيج من قيم الحضارة والبداوة. تبدأ من الخضوع لقانونين هما القانون المدني الحديث والقانون العشائري، والأغاني الحزينة والبكاء والنواح في عاشوراء، والشتائم المدقعة في أول شجار. التمسك بالمظاهر الدينية والانحلال الأخلاقي. الخنوع للقوي والتسلط على الضعيف. الثورة التي لا تبقي ولا تذر والخضوع للطغاة. التغني بحب الوطن ونهبه جهارا نهارا، ولعل أفضل من عكس هذا الصراع إبداعيا شاعر المدينة الأول في الثقافة العربية الحسن ابن هاني أبونواس، عندما سخر من شعراء الجاهلية وبكائهم على الأطلال:

قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس
اترك الربع وسلمى جانبا واصطبح كرخية مثل القبس.

هذه السمات لا تميز فقط الشخصية العراقية وإنما يمكن تعميمها على جميع الشخصيات بين المحيط والخليج. الشخصية المصرية ليست بعيدة عن الشخصية العراقية كما حللها علي الوردي، وإن كانت أكثر تسامحا وأقل عنفا، واستعاضت عن النواح العراقي بروح النكتة، ولكن البنية القبلية والعشائرية في الصعيد جعلت القيم البدوية حية حتى على ضفاف النيل، ومع ذلك فهي أول دولة مركزية في التاريخ منعت البدو من الانخراط في القوات المسلحة، وفي الستينيات سمح عبد الناصر لبدو الصحراء الغربية بالانخراط في الجيش، ولكن لم يٌسمح لبدو سيناء حتى الآن.

- تأملات في كيان هش (2-4)

يؤكد المؤرخ التونسي الدكتور الهادي التيمومي في كتابه "كيف صار التونسيون تونسيين"، أن الصراع بين الفلاح والتاجر البحري وسم تاريخ تونس منذ حضارة قرطاجة وحتى الآن. الفلاح منغلق ويرضى بالقليل ويعظم قيم القناعة والزهد والصبر، بينما التاجر البحري، أي السواحلية، منفتحون على الثقافات الأخرى، ويجيدون اللغات الأجنبية ويحتفون بالحياة مثل معظم شعوب حوض المتوسط، ويخضعون للقانون لأن التاجر البحري يريد تأمين بضاعته حتى تصل سالمة إلى الموانيء الأخرى، وبهذا الصدد نلاحظ أن تونس وضعت أول دستور في العالم الإسلامي عام 1860، كما أنها لم تلجأ إلى القرصنة البحرية مثل ليبيا والجزائر، كما نالت استقلالها بالتفاوض، وكل الثورات قام بها الفلاح سواء ثورة صاحب الحمار، أو ثورة علي بن غذاهم أو ثورة البوعزيزي، ولكن التاجر البحري هو من يجني ثمار الثورة، وهو ما يفسر سيطرة السواحلية على السلطة منذ عصر البايات، وتركز التنمية على الساحل وحرمان الجنوب التونسي من التنمية، حتى وإن كانت مناجم الفوسفات في الجنوب، ويعكس هذا الصراع صراع النخب التونسية الساحلية مع حركة النهضة بعد الثورة، فالمنصف المرزوقي هو الرئيس الجنوبي الوحيد الذي سكن قصر قرطاج، لهذا ونكاية في السواحلية لم يرتدِ ربطة العنق، وارتدى جبة جنوبية أثارت حنق النخب السواحلية، وفتح قصر قرطاج لكل فئات الشعب، حتى الشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة وابن حي القصبة في العاصمة ترك حركة النهضة للغنوشي ابن الحامة في ولاية قابس. ذات مرة كنت أتحدث مع صديق سوداني عاش وعمل في الصحافة اليمنية، عن الصراع بين شمال اليمن وجنوبه، عندما كان علي عبد الله صالح رئيسا للشمال، وعلي سالم البيض رئيسا للجنوب. كنت أستخدم تعبيرات مثل الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر، فقاطعني صديقي السوداني قائلا الحرب بين واحد من القبائل وواحد من الأشراف، فعلي عبد الله صالح من قبائل حاشد، وعلي سالم البيض بالرغم من أنه شيوعي إلا أنه ينحدر من السادة الزيدية يعني من بني هاشم، ووجدت أن هذا الوصف أقرب إلى الواقع.

لم يتطرق التيمومي للبدو في تونس واكتفى بدراسة الصراع بين التاجر البحري والفلاح، ربما لضآلة الهامش البدوي في تونس مثل ضآلته في مصر، واتساعه في ليبيا والجزائر وموريتانيا.

ترى هل ينطبق ذلك على الشخصية الليبية؟ في كتابه "الشخصية الليبية" يركز الباحث التونسي المنصف وناس على "الشخصية القاعدية"، باعتبارها الشخصية الجامعة لكل الليبيين وهو تعبير غامض يحتاج إلى توضيح، وبالرغم من أن الكتاب غني بالأمثلة إلا أنه سطحي ولا يلامس الجذور البعيدة للشخصية، وهو أقرب للكتابة الصحفية منه للدراسة الأكاديمية الرصينة، ربما بسبب وجود أكثر من شخصية في المجتمع الليبي، فلا يمكن اختزال الليبيين بين حضر وبدو، فهناك درجات من التداخل تحتاج إلى نظرة فاحصة، فالروح البدوية الخالصة كما جاءت في قصيدة الشاعر عبد المطلب الجماعي: «أرحم بوي خلاني هواوي كيف النجم في قلب السماء،» لم تعد موجودة في الواقع، كما أن أغنية "فتنا النخل والديس وتعدينا لحقنا الندم يا ريتنا ولينا" لم تعد تمثل هذا الواقع أيضا، مثلما لا يمكن المساواة بين بدوي زاده وبيته فوق ظهور رواحله، وسكان القرى الحجرية في جبل نفوسة وغريان ومسلاته وترهونة وورفلة، الذين يخزنون زادهم في مخازن أعدت لذلك، ويحتفظون بزيت الزيتون في الخوابي، والسويقة والبسيسة في المزاود، مع ابن طرابلس القديمة وبنغازي الذي يشتري زاده من البقال يوميا. ثمة أربع شخصيات في المجتمع الليبي، شخصية البدوي سواء كان عربيا أو طارقيا أو تباويا، وشخصية الريفي الحضري الذي يزاوج بين الزراعة والرعي، وشخصية ساكن الواحة الذي يخضع لقبيلة بدوية محاربة، وشخصية ابن المدينة سواء كانت طرابلس القديمة أو بنغازي أو زوارة أو مصراتة أو درنة، مثلما لا يمكن المساواة بين من يقدم في جميع مناسباته الاجتماعية السمك، مع من مات أجداده جوعى دون أن يفكروا في أكل السمك وهم يعيشون على شاطيء البحر مثل الجميل ورقدالين والخمس وزليتن وسرت وهراوة واجدابيا، والذين يعيشون اليوم في طرابلس هم مزيج من كل هذه الشخصيات، حتى وإن توهموا أنهم "أولاد بلاد". نحن في أمس الحاجة لدراسة هذه الشخصيات، فتشخيص المرض هو نصف العلاج، فهل بين حملة الشهادات العليا في علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والانثربولجيا من يتصدى لهذه المهمة الانتحارية.