Atwasat

تأملات في كيان هش (1-4)

عمر الكدي الإثنين 13 مارس 2023, 01:45 مساء
عمر الكدي

اعتمدت الدولة القرهمانلية (1711ـ1835) في اقتصادها على ثلاثة مصادر رئيسية، وهي القرصنة البحرية وتجارة العبيد وتجارة القوافل مع أفريقيا. توقفت القرصنة البحرية عندما لاحظ البحارة الطرابلسيون وهم مشدوهون السفن الأوروبية تبحر دون أشرعة في مواجهة الريح، ويتصاعد من مداخنها دخان كثيف. فيما بعد أدركوا أن الأوروبيين توصلوا إلى اختراع آلة الاحتراق الداخلي، التي تعمل بالفحم الحجري، مما أغناهم عن الأشرعة والمجاديف. وفي مؤتمر فيينا أصدرت الدول الأوروبية قرارا بمنع تجارة العبيد، فاضطر يوسف باشا القرهمانلي للاستيلاء على دولة أولاد محمد في فزان عام 1813 التي كانت لها تجارة رائجة مع أفريقيا، ولكن الأوروبيين الذين شيدوا موانيء على الساحل الغربي لأفريقيا أحالوا تجارة القوافل على التقاعد، ولم يبق أمام يوسف باشا إلا فرض المزيد من الضرائب على الأهالي، وهو ما عجل في الثورة عليه ونهاية الدولة القرهمانلية في عهد ابنه علي، وعودة الأتراك لحكم ليبيا بشكل مباشر عام 1835.

وبالتالي فالليبيون لم يعتمدوا على مصدر ثابت ودائم لدعم اقتصادهم الضعيف، أما اقتصادهم المحلي فكان اقتصادا لا يصلح للمراكمة، وهو في جميع أنحاء البلاد اقتصاد اكتفائي تكفي عوائده للاستمرار على قيد الحياة، سواء كان على الساحل أو في الجبل أو في البادية، ومع ذلك نجح السنوسي الكبير في بناء حركة تجارية مع أفريقيا تعتمد على القوافل وسلسلة الزوايا التي شيدها، وتركز على المناطق التي ظلت بعيدة عن موانيء الأوروبيين، فانتعشت الحياة في برقة وتراجعت في طرابلس وفزان، إلا أن تلك العوائد ساعدت في الصمود أمام الغزو الإيطالي ولم تساعد في إحداث نقلة اقتصادية.

يوضح المؤرخ التونسي الدكتور الهادي التيمومي في كتابه "كيف صار التونسيون تونسيين"، أن نظام "المخامسة" هو النظام الذي سيطر على منطقة المغرب الكبير من المحيط الأطلسي حتى مصراتة في ليبيا، ويعتمد هذا النظام على تأجير الفلاح جهده لصالح صاحب الأرض، مقابل خمس الإنتاج بعد حصاد المحصول، وهو عائد لا يكفي إلا في المحافظة على حياة الفلاح وعائلته من الموت جوعا، كما يوجد في المنطقة نظام آخر هو نظام المغارسة، وفيه يتكفل الفلاح بغرس أشجار مثمرة على مساحة من الأرض سيمتلك نصفها عندما تثمر الأشجار، أي أن على الفلاح الانتظار أحيانا عشر سنوات إذا كان الاتفاق على غرس أشجار الزيتون أو النخيل، وهو زمن يكفي ليتورط الفلاح في ديون يظل يدفعها على الدوام.

انطلق الدكتور التيمومي من سؤال مهم، وهو لماذا انتقل الأوربيون واليابانيون من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، بينما عجز الآخرون؟ والجواب أن الآخرين اعتمدوا نظاما أقل عبودية للأرض وصاحبها، ولكنه لا يصلح للمراكمة. دراسة أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج هي التي تحدد البنية الفوقية للمجتمعات. معتقداتها وثقافتها وطرقها في التفكير وتنظيمها الاجتماعي.

الاقتصاد في الواحات أيضا لا يصلح للمراكمة لتنمية رأس المال، فالفلاح في الواحات عليه أن يعطي العشر للدولة أي دولة في طرابلس، دون أن تعطيه هذه الدولة أي خدمات، وبالتالي سيضطر لإعطاء العشر الآخر للقبائل البدوية المحاربة لحمايته، والباقي سينفقه على عائلته وشراء أدوات الإنتاج، والمبادلة مع الشمال. التمر مقابل الشعير والقمح وزيت الزيتون.

أما الاقتصاد في المناطق البدوية فقد لخصه الشاعر الكبير عبد المطلب الجماعي، عندما قال:
أرحم بوي خلاني هواوي
كيف النجم في قلب السماء
لا لي غرس منبوته سناوي
ولا زيتون معصاره زوى
ويستطرد قائلا في قصيدة لا تقل أهمية وجمالا عن قصائد شعراء المعلقات.
وحتى الصقر ركاز العلاوي إن جاه الضيم من وكره جلا
وأنا الطير لربد بوجلاوي عندي البعد والداني سوا

وبالتأكيد فإن هذا الاقتصاد يحقق الحرية ولا يصلح للمراكمة والانتقال إلى الرأسمالية وبناء الدولة، ويمكن القول أن البدوي لا تاريخ له، فهو يكرر ما فعله أجداده ويدور في نفس الحلقة المغلقة، المحروسة بصرامة بقيم وأمثال وعادات وتقاليد وأعراف، وله أيام مثل أيام العرب قبل الإسلام، والتي عادة ما تخلدها الحكاية أو مثل هذه القصيدة الرائعة.

يوكد الدكتور التمومي في كتابه المذكور أن فقهاء المسلمين اعتبروا نظام المخامسة ضربا من الربا، إلا أن العامة رفضوا كلامهم فسكتوا عن الكلام المباح، وبالتأكيد نحن في ليبيا نحتاج إلى مزيد من هذه الدراسات التي تذهب عميقا، لتوضح الأساس لهذه الهشاشة في المجتمع والدولة، وهو ما لفت انتباه الكاتب الراحل عبد الله القويري عقب وصوله إلى ليبيا قادما من مصر حيث ولد وترعرع، في كيان اجتماعي ومؤسسي قوي، لينتقل إلى هذه الهشاشة ويتساءل عن معنى الكيان، أما ابن عمه الكاتب يوسف القويري فرفض هذا الكيان، وانصرف مثل أي فنان إلى المستقبل ليكتب "من مفكرة رجل لم يولد"، وعاش يوسف صعلوكا ورحل ولم يولد هذا الرجل بعد.