Atwasat

الغش ما يقتل وليس الزلازل

سالم العوكلي الثلاثاء 14 فبراير 2023, 02:29 مساء
سالم العوكلي

رغم أن كل وسائل الإعلام تصف ما تمخض عن الزلازل بالكارثة الطبيعية، إلا أنها ليست كارثة طبيعية مائة بالمائة، لأن للبشر دوراً في ما أسفرت عنه من مآسٍ وستظل تسفر لأجل غير معلوم، فالزلزال لا يقتل، ولكن ما يقتل هو المباني، المباني الضخمة من أطنان الحجر والإسمنت التي تعلو بمن فيها من بشر دون مراقبة مواصفات البناء الآمن. فتجار العقارات الساعون إلى الربح يراكمون هذه المساكن الهشة كأبراج الحمام ويبيعونها للناس ويمضون إلى مكعبات أخرى للموت. حين نرى عمارات متهاوية بسكانها في وسطها عمارة ناجية بسكانها، ندرك أن قوة الهزة واحدة لكن الفارق هندسي يتعلق بحياة الناس. الفارق في النزاهة والإتقان والضمير، بل هناك قلاع أثرية يرجع بناؤها إلى قرون وصمدت عبر تاريخها في وجه الزلازل.

من المفارق أن نرى الآن نزوحا عكسيا من هذه المباني صوب مخيمات اللاجئين، ليلوذوا بحمى خيام ناعمة تشعرهم بالدفء والأمان، ومن المفارق أن تسعى السلطات في تركيا لعزل هذه المنطقة المنكوبة تحت تسمية الحزام «الآمن»، ومن المفارق أيضاً أن يعقد مجلس الأمن جلسة طارئة لأول مرة بسبب زلزال، لأنهم يدركون أن للخلافات السياسية دورا في استفحال هذه الكارثة.

الدروس للبشر لا يعطيها التاريخ فقط، ولكن الجيولوجيا والجغرافيا أيضا تُعلِّم الإنسان، وهذه الموجات العظيمة من النزوح البشري التي حدثت طيلة العقد الماضي، هي نتيجة زلازل سياسية لا يقوى جهاز ريختر على قياس شدتها، غير أن المفارق أن من لاذوا بالخيام بعد أن هدمت الصواريخ والقنابل المنتجة في الدول الكبرى منازلهم، هم من يحتضنون الآن الذين جردهم الزلزال من بيوتهم الثابتة. كوارث تحتوي كوارث في هذا العالم الذي يعتقد جازما أنه يحث خطاه قُدما فيما يسيمه التقدم، و«قد يكون التقدم جسر العودة إلى البربرية» كما يقول الشاعر محمود درويش قابساً من المفكر إدوارد سعيد في قصيدة رثائه له. أما الدول التي مازال اقتصادها يقتات على الحروب وصنع أكثر الأسلحة فتكا وتدميرًا، لا يجد ساستها الإمكانات المناسبة ولا الوقت لإنقاذ آلاف البشر الذين يئنون تحت الحطام، وعلى الحدود بين الجارتين، سوريا وتركيا، تتراكم الجثث لتلحق بعشرات ألوف الجثث في سوريا التي فتكت بها حرب شاركت فيها أمم كثيرة بتصدير السلاح والقتلة، وبفرض العقوبات التي فاقمت من آثار هذه الكارثة، مثلما تسببت عقوبات غربية على العراق في القرن الماضي في موت أكثر من ربع مليون طفل.

في زمن ما، عندما كان الإنسان يأوي في كهف أو خيمة او في ظل شجرة، كانت الزلازل مجرد رقصة للأرض تجدد بها حيويتها، غير أن الإنسان ــ وهذا من حقه ــ قرر أن يبني المدن والجسور والأبراج وناطحات السحاب، وهو يدرك أن الزلازل والأعاصير قدر الأرض، وسمح له دماغه الذكي أن يتوقع بعض الكوارث قبل حدوثها ويحتاط ضدها، وظلت الزلازل بعيدة عن حدس الإنسان بها أو التنبؤ الذي طورته حيال الكوارث الأخرى أذكى التقنيات، وحده الزلزال استمر الحدث البعيد عن توقع زمانه ومكانه بالتحديد، وظل الزائر المفاجيء للناس وهم نائمون في بيوتهم، والذين غالباً لن يستيقظوا أبدا، غير أن العقل الإنساني لا ييأس من فكرة تعزيز الحياة وتبجيل قيمة الإنسان، وفي أمة تقبع في جزر فوق أكثر مواقع الأرض اهتزازاً، حيث الزلازل لديهم مثل هبوب الرياح حدثٌ متكرر وتقليدي، في اليابان قرروا أن لا يكونوا مساهمين في استفحال كارثة الزلزال الطبيعية وتحويلها إلى مأساة تفتك بعشرات الألوف، وبذل مهندسوهم كل عبقرياتهم وجهودهم في أن يجددوا بنى تحتية ومساكن تحمي البشر من أقوى الزلازل شدة، ونجحوا في هذا إلى حد كبير، وحين وقع آخر زلزال في اليابان بنفس قوة زلزال تركيا، كانت الخسائر لا تُذكر، وظلت المباني المصممة ضد الزلازل صامدة يلتقط فيها سكانها، لحظة الاهتزاز، مقاطعَ مرحة للثريات وهي تتأرجح، أو للكتب وهي تسقط من الرفوف، مطمئنين إلى أن مهندسيهم حولوا الزلازل إلى لعبة أو إلى رقصة كما كان يراها سكان الكهوف السابقون والخيام. وفي الصين تُعرف المدينة المحرمة بصمودها في وجه أكثر من 200 زلزال على مدى أكثر من ألف عام، وطريقة بنائها ألهمت المهندسين الصينيين لأن يشيدوا الآن مبانيَ مقاومة للزلازل تصل إلى 100 طابق، لكن كثيراً من الدول التي لا تُقدس حياة الإنسان، ولا تحترم مواطنيها مشغولةٌ عن كل ذلك بأشياء أخرى من قذارات السياسة والصراع على المال والسلطة، وفي مدن يعرفون أنها فوق ملتقي الصفائح المتحركة، تُقام المباني الضخمة ويُحشد فيها البشر دون حد أدنى من مراعاة أمن البشر، وهي لا تتوقف عن فعل كل الشرور بحجة الأمن القومي الذي حل بديلًا لأمن الإنسان، طالقة يد تجار العقارات يتلاعبون بمصير الناس وبحيواتهم، وتحت بند القضاء والقدر وكونها كارثة طبيعية دائماً ينجو المجرمون من العقاب.

مشاهدُ لن تُنسى، رؤية الناس يبتعدون عن بيوتهم المتصدعة ويهيمون في الخلاء بعيداً عن رعب الجدران والمباني البراقة، يبيتون في العراء أو في سياراتهم على أرض مفتوحة، في درجات حرارة تحت الصفر، ودون غذاء أو دفء أو أي خدمات، في سوريا خصوصًا، وفي شمال غربها تحديدًا، حيث تحتضن كارثة سابقة كارثة جديدة، بينما السياسيون المسؤولون عن كل هذه الكوارث يماطلون في فتح المعابر والممرات لتصل شاحنات الإغاثة، بينما المعابر نفسها كانت مفتوحة لتدفق السلاح والقتلة دون تعطيل، وكل هذا يحدث في عالم يتفاخر بأنه أصبح قرية صغيرة، غير أن الجسور الجوية وكل وسائل الشحن مشغولة الآن بتغذية الحروب، وبهدم المزيد من المباني والبيوت على رؤوس قاطنيها بزلزلة الصواريخ والقنابل التي تفنن الأشرار في صنعها.

نعم سيستيقظ ضمير العالم نظريا لبعض الوقت كما يحدث في كل كارثة أو مذبحة، وسيتباكى السياسيون ويعلنون عن حزنهم وأسفهم ثم يمضون إلى أسرّتهم الدافئة في مبانيهم المقاومة للزلازل، وسيُصرح البعض أن هذه الكارثة وحّدت مشاعر العالم، سيصلي السيخ في مكان ما ترحمًا على ضحايا الزلزال في الدول الإسلامية، بينما شعب الروهينقا يباد في مكان آخر، سترسل القوى الكبرى بعض فرق الإنقاذ متأخرين لتتحول من فرق إنقاذ الناجين إلى فرق انتشال للجثث، وفي الوقت نفسه لن تتوقف عن إرسال الأسلحة إلى حرب تسببوا فيها ويصرّون على استمراراها في أوكرانيا، ولا بأس من رفع بعض لافتات إنسانية تتخلل استراتيجات طويلة للفتك بالكوكب ومن عليه، تلوّث يهدد وجود الكوكب، ومخزون نووي يشكل احتياطياً استراتيجياً لزلازل كبرى تحتفظ بها القوى النووية للوقت المناسب، فمهما كانت ضحايا هذه الزلزال لن تصل إلى نسبة صغيرة مما قتلته قنبلة ذرية في هيروشيما أو ناجازاكي، ألقاها طيار أنيق ورجع ليحضر أعياد الفصح مع عائلته.

لن تضاهي هذه الخسائر عدد البشر الذين قُتلوا تحت القذائف في سوريا والعراق وليبيا واليمن، لأن هذه الشعوب عنَّ لها أن تعبّر عن رغبتها في الحرية والخبز والكرامة، ولن تضاهي الملايين الذين فتك بهم فيروس كيوفيد الذي مازال غامضاً حتى الآن، ويصر علماء مستقلون على أنه نتاج لتلاعب البشر، وكيف لا نصدق ونحن نعرف أن سباق الأسلحة الجرثومية على أشده، وأن المختبرات تنتشر في القارات كلها وبعيدا عن حدود الدول المتلاعِبة بجينات الجراثيم والفيروسات، والحرب النووية التي بدأ يثار احتمال وقوعها في تصريحات رسمية حَدثٌ وارد في أي لحظة جنون، ومعها ستكون الزلازل مجرد جنحة ترتكبها الطبيعة بمساعدة تجار العقارات الغشاشين.

مشاهد عشرات الأطفال الذين ينقذون أو الرضع الذين «يُلقطون» أحياءً بفضل قرب عهدهم من الأرحام وأجسامهم الصغيرة التي نجت في تجاويف الحطام، يجب أن لا تنسينا آلاف الأطفال وأسرهم الذين لم يحالفهم الحظ، وقضوا تحت الركام بعد أن تأخر المجتمع الدولي في التحرك صوب هذه المنطقة المضطربة سياسياً. أطفال رُضّع يولدون للمرة الثانية من رحم الحطام دون هوية ودون أسرهم، ذاهبين إلى مصيرهم المجهول في منطقة تتسكع فيها الأوبئة والقتلة، وفي دول لا تقدر حياة الإنسان حتى خارج الكوارث، ونُظُمٍ تكتظ سجونها بعشرات الألوف من المعتلقلين السياسيين. يجب أن لا تنسينا تلك المشاهد التي تركز عليها وسائل الإعلام ومواقع التواصل أن ما جعل هذه الكارثة بهذا الحجم صراعات سياسية وأخطاء بشرية وثقافة الغش المستشرية، إضافة إلى آلاف النازحين من الحروب الذين تكدسوا في بيوت قديمة ومهجورة.

بعد جائحة كورونا وهذا الزلزال الكبير الذي ضرب منطقة صراع دولي، يتعرّى تمامًا النظام العالمي الذي قادته الرأسمالية المتوحشة منذ ثلاثة عقود، وما بين ديمقراطيات يتحول كل شيء فيها إلى سلعة، ودكتاتوريات يتحول كل شيء فيها إلى شبهة، تتراكم الجثث تحت حطام الزلازل والحروب، وفي أماكن الحجر الصحي، وفي مواطن الجوع الجافة، بينما الضحايا تتحول مآسيهم إلى استعراضات دعائية لحكومات أو أحزاب ترسل معوناتها مصحوبة ببروقاندا إعلامية يطغى بريقها على المشهد.