Atwasat

خمس حكايات من زمن الفيدرالية (5/1) موت الشرانق أو حياتها

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 أكتوبر 2022, 09:53 صباحا
محمد عقيلة العمامي

المعلم المربي الأستاذ محمد حمد العمامي، أحد رواد التعليم في المنطقة الشرقية، بعض من جيلي، وكثيرون من أبناء عمومتي يعتبرونه خالهم، كان شخصية رقيقة واعية، مأخوذة بالزراعة والزهور، لدرجة أن نظارة المعارف فرغته لإدارة المشتل الزراعي التعليمي التابع للنظارة، قبل أن تصبح وزارة التعليم في المنطقة الشرقية. كان معلماً متمكناً من مادته، في أجدابيا، ثم في منطقة البركة والفويهات، ولكنه كان مأخوذاً بالنباتات والزهور، ولذلك أعتقد أنه الوحيد الذي أقام معارض سنوية للزهور في حديقة بنغازي. كنت كثيراً ما أزوره في المشتل المدرسي في الفويهات، وتعلمت منه الكثير عن النباتات والزهور.

ولما كبرتُ، ومنّ الله عليّ بمسكن خاص، بحديقة صغيرة، زارني في بيتي الجديد، ووجدني مهتماً بنبتة برية خصصتُ لها حوضاً وداومت على ريها والعناية بها، ولما وقف فوقها اجتثها من عروفها وقال: «اطزرنا!»، واستطرد: «إنها نبتة الخشخاش، أو القنب! التي منها تستخلص المخدرات!»

وأخذني من يدي، وأجلسني بجواره عند مطلع بيتي، وقال لي: «زمان في قمينس، وجد الناس، في الصباح الباكر، صاحب دكان معروف، نائم في دكانه، المفرغ من البضاعة كلها! ولما سُئل من بعد أن أفاق من نومه، قال: «جاني بدو رُحل، واستأذنوا أن يرتاحوا أمام المحل، فرحبت بهم، وأكلوا ما قسمه الله، وأعددت لهم إبريق شاهي، فوق كانون وضعوه بينهم، وسكبوا الشاهي، وشربت كوبي، ولم أذكر بعد ذلك شيئاً إلى أن وجدت البوليس يطوق المكان، والدكان فاض، ولا أثر لتلك الجماعة!»

اكتشف البوليس أوارق «الطزرنا» في إبريق الشاي، وعرف البوليس أنه سبب غيبوبة صاحب الدكان. وعرفت من خالي أن أمهاتنا كانت تجعل من أوارق الطزرنا «لحوس»، يعني معجون للأطفال ليناموا! بمعنى أن أوراق الطزرنا تطبخ وتعجن وتكون «لحوس» مخدرا للأطفال والبالغين أيضاً!

في ستينيات القرن الماضي، كان المشتل المدرسي في الفويهات، وخصصت النظارة له فيه مسكناً، وكنت، وأقاربي كثيراً ما نزوره هناك. كانت متعته أن يحدثنا عن الطبيعة والزهور والفراشات، وكنا مأخوذين بمعلوماته، وذات يوم وفيما كنت أراقب نوارة، تفتقت وطارت، فتعجبت، وسألته عن اسم هذه الزهرة التي طارت، فضحك كثيراً وأوضح لي أن ما رأيته هو في الواقع فراشة خرجت من شرنقتها، وأوضح لي أن دودة القز تلف نفسها بخيوط حريرة تنتجها من فمها، وتبقى بداخلها وعندما تكتمل دورة حياتها تجاهد لتخرج من شرنقتها كزهرة وتطير، إنها الفراشات الملونة التي تشبه الزهور، وهذا بالفعل ما رأيته. وأخذ شرنقة وقص غلافها الحريري، وخرجت الفراشة حية ولكنها ماتت سريعاً!

ثم فسر لي سبب موتها، قال: (ثمة سم لم يخرج من جسمها فماتت! وسيلة الفراشة في طرح السم من شرنقتها هو في الجهد الذي تبذله، فيخرج من جسمها السم مع «عرقها» نتيجه جهد طيرانها. أما إن تمكنت من الخروج من دون جهد فالسم يظل في تكوينها وتموت! ثم ببساطة شديدة فسر لي أن الناس إذا ما اجتهدوا فيما يريدون ازداوا قوة وصلابة وعزماً ونجحوا في الحياة، ولكن إن نالوا ما يريدون بسهولة ويسر غلب عليهم الضعف وماتوا وهم أحياء يتنفسون!. واستطرد بود: «فاجتهد لتطير في سماء الله كفراشاته!»

الأستاذ محمد حمد العمامي، شخصية رقيقة، هادئة، خيرة عملية. كان وراء كل خروجي وعائلتي من «شرنقة الفقر» فما إن نلت أول مرتباتي من نظارة الإشغال، في مطلع ستينيات القرن الماضي، حتى أتم إجراءات توصيل المياه والكهرباء إلى منزل جدتي بشارع محمد موسى، وكان ذلك حدثاً كبيراً، حتى إن الجارات من منزل المقيرحي المجاور لبيتنا، والذي كان يؤجره بالغرفة للنازحين من خارج بنغازي، جئن وتوددن لوالدتي كي تساعدهن في الحصول على جردل ماء من الحنيفة إن تأخر الوراد، يعني السقا، الذي يطوف على المنازل يبيع الماء!

الفقر كان في ذلك الزمن الجميل يقرب الناس لبعضهم البعض ويساعدهم على طرح سموم يرقاتهم، فقامت ليبيا سريعاً بفضل دولة ملكية، قادها رجل صالح، وانتقى لها نظاما فدراليا، وما كان له أن يتغير لولا إصرار رجال النفط ليتعاملوا مع جهة واحدة وليس ثلاث جهات هي حكومات الولايات. وللأمانة والتاريخ رضخ جميع أولياء الأمور منا من رجال الدولة الليبية، ولكن المرحوم حسين مازق رفض إلغاء النظام الفدرالي، مؤكداً أنه خطأ فادح ولم يشارك في تغييره، ولا في الحكومة التي أقرته، ولفترة ليست بالقصيرة.

وها أنا الآن، من الذين يرون الحل الليبي في الفيدرالية!