Atwasat

كازينو القمار الليبي

سالم العوكلي الثلاثاء 12 يوليو 2022, 11:53 صباحا
سالم العوكلي

المحن التي تمر بالمجتمعات تفرز ثلاثة أصناف ممن يتفاعلون مع المحنة أو الأزمة، كل وفق أخلاقه ووفق طريقته: صنف تُخرج الأوقات الصعبة أفضل ما فيهم، وصنف تخرج أسوأ ما فيهم، وصنف ثالث ينأى بنفسه عن التدخل، وهو صنف عادة ما تكون أياديهم بيضاء، ليس بسبب مواقف، بل لأنهم يضعونها طوال الوقت في جيوبهم.

حالات التمرد والثورات الشعبية على نظم الاستبداد، طوال التاريخ، تفضي بالمجتمعات لأن تمر بعدها بأوقات صعبة نتيجة ما يحدث من زلزال في كل بنى الدولة وبنية المجتمع، وما حدث في ليبيا يأتي ضمن هذا المصير الذي ترسمه الأحداث الكبيرة، والنتيجة المتوقعة أن الصنف الثاني الذي تُخرج فيه الأوقات الصعبة أسوأ ما فيه، هو من يتصدر المشهد ويقود المرحلة التي تتبع سقوط النظام، لأنه نوع انتهازي ولا مشكلة عنده في الاحتراق الأخلاقي في المرحلة إذا ما خرج بالغنيمة.

لقد تغنى النظام السابق بثالوثه السلطوي وحوّله إلى مقولات وهتافات وأغان وفواصل إعلانية، وهذا الثالوث هو «السلطة والثروة والسلاح» التي أدعى أنه سلمها للشعب رغم أنها احتكرها لنفسه ولمن يثق فيه من مقربيه، أو لدعم الحروب والجماعات المتمردة في أصقاع العالم، حتى أن فكرة تسليم هذا الثالوث للشعب تحول إلى مصدر تفكه ونكتة لدى الناس المحرومين منها، بعد أن حرموا حتى من حيازة بنادق الصيد، وأي حاكم مستبد لابد أن يتحكم في هذا الثالوث كي يحافظ على سلطته، وأي صنف من الناس يسعى للسلطة سيعمل على التحكم فيه كي يصل إليها. وهكذا، وبمجرد انتهاء نشوة الثورة والخلاص من الطاغية، كان الصنف أو الأصناف التي تعقب الثورات وتستغل مرحلة الفوضى تتصارع على هذا الثالوث الذي أصبح شاغرا بمجرد نهاية مالكه وسقوط نظامه.

فهِم مبعوثو الأمم المتحدة أخيرا طبيعة هذا الصراع الذي يتغنى بالوطن وبالشعب وبالقيم، لكنه في حقيقته صراع من أجل هذا المثلث الحاد الزوايا، ولذلك كانت كل المبادرات والاتفاقات التي تحاول أن تحل الأزمة تركز على توزيع المناصب والحقائب لترضية كل الأطراف، مثلما كانت الأمم المتحدة، رغم العقوبات وقرارات مجلس الأمن، تغض الطرف عن السلاح الذي يتدفق إلى مناطق الصراع، وعن الأموال التي تغذيه، لأن المثلث لا يكتمل إلا بهما باعتبارهما ضلعين منه للوصول إلى السلطة. والسلطة في بلد غنية تُسيل اللعاب والدماء، خصوصا أن هذه البلد فارغة من التيارات السياسية الرصينة، ومنعدم فيها مفهوم الدولة العميقة، لأنها عاشت لفترة طويلة في ظل دولة أمنية مسطحة وهشة تعتمد على احتكار مصدر الرزق وعلى تقلب الولاءات القبلية، تتقلب ألوانها كالحرباء للتكيف مع ما يستجد، وتغير جلبابها كل ما تغيرت الظروف، لتضع المجتمع في عقود من الاضطراب والإرباكات التي آلت في النهاية إلى هذه الفوضى العارمة التي نشهدها.

يقول البعض الذي تعود التهكم على شعار النظام السابق فيما يخص السلطة والثروة والسلاح، إن مقولات القذافي التي عجز عن تحقيقها طيلة أربعة عقود حققها تابعوه خلال فترة بسيطة، باعتبار أن الشعب تقاسمها في النهاية، لكن هذا التحليل ليس دقيقا، فمن استولى على الثروة والسلاح للوصول إلى السلطة هم قلة ترى أنها من صلب الطاغية والوريثة الشرعية له، فمعظم هذه القلة تربى في كنف النظام السابق ورضع من حليبه الملوث حتى الثمالة، بينما الأغلبية الساخرة من المجتمع ما زالت تولد النكتة المُرة حول ما يحدث لها من مسخرة، وما زالت كل مبادرة جديدة لحل الأزمة تقع في نفس الغاية من الصراع، وصولا إلى آخر السلطات التي فاجأت بقائمتها غير المتوقعة الداني والبعيد، والتي جاءت أيضا كما أكدت تقارير للأمم المتحدة وتسريبات من داخل فندق الفصول الأربعة، عن طريق المال السياسي الفاسد المنهوب من إحدى زوايا المثلث وهي الثروة التي سُرقت من الليبيين، والتي بها تدار الآن المؤامرات على مستقبلهم. وفي قلب هذا الصراع اللاأخلاقي كان شيء واحد ينمو وتتقدم مرتبته في سلم المؤشرات العالمية وهو الفساد الذي استشرى في كل السلطات، والذي تجاوز حتى مفهوم الفساد التقليدي، ليسميه أحد مفوضي الأمم المتحدة بـ «النهب» لأنه وجد أن مصطلح فساد لا يعبر عن حقيقة ما يجري من سرقات بالمليارات، أو الملايين، وفق القرب أو البعد من المصرف المركزي ومن كازينو القمار الممتد على مساحة الوطن.

من جانب آخر كان الحفاظ على الميليشيات والمرتزقة والسيطرة على الأرض بالسلاح جزءا من الصراع على هذا الثالوث الذي يفضي بعضه إلى بعض، لأنه أنجع وسيلة للحفاظ على الفساد والطرق الآمنة صوب الثروة، ومن ثم صوب السلطة واحتكار النفوذ.

السلاح منتشر وما زال يتدفق إلى الأيادي القاتلة التي أكثر ما تحتاجه هو إعادة التأهيل بعد أن ولغت في الدماء وفي القتل بدم بارد، وفي هذا الوقت الصعب انقسم المجتمع، جماعات تتصدر المشهد وتُخرج أسوأ ما فيها لكسب هذا الصراع القذر على الثالوث، وهامش من الليبيين يخرجون أفضل ما فيهم عبر من يقومون بمحاولة تقليل الضرر أو معالجة الجراح: من فرق مصالحة وفر ق إسعاف، من شبيبة الهلال الأحمر أو العاملين بضمير في المؤسسات الصحية، أو في إصلاح شبكات الكهرباء، أو بعض الكتاب الذين يحاولون توضيح حقائق الصراع ونشر الوعي حيال ما يحدث، وبعض المؤسسات الحقوقية التي تحاول أن تسجل الجرائم المرتكبة بعيدا عن العقاب، وغيرهم ممن يجعلون ليبيا تستمر في الحياة والتنفس في أصعب الأوقات التي تمر بها. وأغلبية تطارد القوت اليومي وتكتفي بالدعاء بأن يفرج الله على ليبيا، بعد أن أخرجهم محتكرو الثالوث من المشهد ومن المشاركة حين اختفت صناديق الاقتراع من كل الحلول في السنوات الأخيرة، وأصبحت سياسة التعامل مع ما يفرزه الأمر الواقع من سلطات متطفلة هي السائدة.

هذه الأغلبية تنتظر بفارغ الصبر أن تعود إلى فرصة أخرى للمشاركة عبر الانتخابات والتي سرعان ما سجلت في القوائم وما زالت تحتفظ ببطاقاتها، غير أن ما يظهر حتى الآن يشي بأن هذا الاستحقاق مجرد سراب، خصوصا في ظل أداء السلطات المنوطة بها هذه المسؤولية والتي للأسف دخلت دائرة الصراع وانضمت للصنف الذي يُخرج أسوأ ما فيه بدلا من أن تقوم بمهامها التي كُلفت بها، ومثلما جاءت عبر الفساد انخرطت فيه.

تصريحات رؤوس السلطة وما يتخذونه من إجراءات وقرارات لا تمت لمهمتهم بصلة، تنبئ أنهم دون المسؤولية، وأن كون هذه القائمة الأخيرة التي انتهت ولايتها وفق اتفاق جنيف، كانت مفاجأة للجميع هي حقيقة، وحقيقة مرة. فالأساس في مهمتهم إطلاق برنامج سريع ومكثف ومدروس للمصالحة الوطنية، وتوحيد المؤسسات، وإخراج المرتزقة، وتفكيك الميليشيات ونزع السلاح السائب، ولا شيء تحقق من هذه المهام، بل ازدادت الأزمة تعقيدا عبر دخول أجسام أخرى عليها فقدت الشرعية، وازداد الاحتقان والانقسام حدة، والميليشيات قوة، والفساد فسادا إنها ازدادت سوءا، كما أن تصريحات هذه السلطات ما زالت تقع في أخطاء جسيمة تزيد النار اشتعالا، بدلا من أن تهدئ النفوس وتطمئنها، ولم تفعل شيئا حيال ذلك سوى تصريحات أو تصرفات تزيد هذا التشرخ، ولا لوم عليهم فافتقادهم للخبرة أو لمؤهلات بناء دولة وقيادة أمة لا بد أن يفضي إلى هذه الأخطاء، كما أنها سلطات جاءت في نفس سياق الصراع على الثالوث الملوث الذي تقسم فيه السلطات والمناصب في مجتمع لا دولة فيه، وتعتمد فيها الميزانيات الضخمة في ذروة انتشار الفساد وغياب أجهزة الرقابة، أو خوف هذه الأجهزة من الميليشيات والسلاح إذا ما أعملت ضميرها المهني.

كما قلت مرارا أن الفساد في ليبيا مختلف لأنه فساد مدجج بالسلاح ومدعوم من قوى دولية وإقليمية، وكما أن مصطلح الفساد لا ينطبق تماما على حالة النهب في ليبيا، فإن مصطلح الميليشيات لا ينطبق بدقة لأن الموجود عصابات تشبه عصابات المخدرات في أميركيا اللاتينية تتصارع على المال والنفوذ والمدن والأحياء والولاء القبلي. وستظل مقرات السلطات، سواء كان معترفا بها أم لا، تتعرض لاقتحامات المسلحين ممن أخرجوا أسوأ ما فيهم إذا ما فكرت هذه السلطة في مخرج يضر بمصالحهم، وينتقل المال الفاسد من جهة إلى جهة ليمول عبر عملاء ورشى أشخاص يحرقون مقر جسم يخاصمهم، ورغم كل ما يؤخذ على مجلس النواب إلا أنه يظل حتى بعيوبه التي لا تحد صرحا قائما للحفاظ على شكل الدولة المدنية ضد خطرين يتهددنها، دولة عسكرية أو دولة دينية، فالشعوب من المفترض أن تغير محتوى هذه المباني البشري، لكن حين تحرقها تحرق معلما من معالم الحلم الديمقراطي، ولا تفتح الأفق إلا لاستبداد جديد تتجهز له قوى اجتماعية أخرى.