Atwasat

التضحية بحق الحياة لأجل حق دستوري

سالم العوكلي الثلاثاء 31 مايو 2022, 12:57 مساء
سالم العوكلي

الحادثة التي وقعت أخيرا في ولاية تكساس، حيث قتل صبي مراهق 19 طفلا ومعلمتين في مدرسة أبتدائية ببلدة (يوفالدي)، تثير الكثير من الأسئلة تجاه هذه الأمة التي تعتبر حياة مواطنيها مقدسة، والمستعدة لأن ترسل أساطيلها إلى آخر الدنيا، كي تنقذ حياة مواطن أمريكي، ولأن تتفاوض مع الشيطان نفسه كي تفرج عن رهينة أمريكية.

لا أحد يشكك في احترام هذه الأمة لحياة مواطنيها واعتبارها مقدسة، لكن للرأسمالية مقدسات أخرى تتصارع مع هذا المقدس المبدئي وتقدَّم التنازلات من أجلها، وهي مرتبطة بمبدأ الربح المفضل على كل شيء، وتشرف عليها لوبيات قوية تؤمن أنه لابد لأهدافها من تضحيات وضحايا كما لأي حرب تقوم من أجل أهداف اقتصادية.

تكررت، في أمريكيا، حوادث حمل السلاح وإطلاق الرصاص على مجموعات بشرية مسالمة، في المدارس أو المسارح أو المقاهي أو المعابد، وكل مرة يثار الجدل بشأن حق حمل السلاح في أمريكا، ويينتهي هذا الجدل بكونه حقاً دستورياً وأصيلاً، وأن تقنينه؛ الذي يعترض عليه البعض، ربما هو المخرج الوحيد للتقليل من هذه المجازر وليس منعها.

وعجيب هذه الحق الدستوري الذي يبدو أكثر قداسة من حياة الأطفال ومما يتعرضون له وأهاليهم من رعب، وهو يرجع إلى مادة قديمة وضِعت في الدستور إبان فترة كان العنف فيها ثقافة هذا العالم الجديد وحمل السلاح جزءا من زينته واكسسواره، وثقت لها أفلام رعاة البقر والعصابات وقطاع الطرق، حيث كان على كل أمريكي أن يتزنر بحزام يحمل مسدسا أو أكثر ومشطا من الرصاص كي يستمر في الحياة، وحين كانت نجدة الشريف الذي يمتطي حصانا قد تستغرق أياما للوصول إلى مكان الجريمة، وكل المخططين في الولايات المتحدة يعرفون أن لا ضرورة لهذه المادة الدستورية التي تتسبب في مقتل ما لا يقل عن 50 ألف مواطن سنويا بطرق مختلفة، ويعرفون لو أن حمل السلاح منع على الجميع، كما في دول أوربية وغير أوربية تمنع حمله من قبل المدنيين، فإن خطر تعرض المواطن للهجوم بسلاح ناري سيقل أو ينعدم، بمعنى أنت تصر على حق تملك المواطن للسلاح لأنه معرض للهجوم بسلاج آخر منحت حق تملكه.

ولا أحد من تجار السلاح بإمكانه أن يطلع على نفس وأعماق الزبون وغايته من السلاح، وما يزيد المشكلة تفاقما حق تملك أسلحة آلية ورشاشات لا يمكن أن تستخدم إلا في جبهات الحروب وقادرة على قتل أكثر عدد ممكن في أقل زمن، ولو كان هذا المراهق يحمل مسدسا بخمس طلقات كافية للدفاع عن نفسه لما قتل مثل هذا العدد من الأطفال والمدرسين .

من المفارق أيضا أن بيع الكحول في أمريكيا ممنوع على من هو أقل من 21 سنة، وبيع السلاح محظور على من هو أقل من 18 سنة، وتخضع هذه القوانين لمدى قوة اللوبيات الضاغطة. فبالنسبة للوبي السلاح رفع السن القانونية إلى 21 أو أكثر محسوب بخسائر تقدر بمئات الملايين سنويا، وهم يعرفون أن سن المراهقة أكثر الأوقات شغفا بالسلاح، وهم أيضا من يروجون للألعاب الإلكترونية العنيفة التي يقوم من خلالها طفل لا يفرق بين الواقعي والافتراضي بحمل رشاش وقتل كل من يصادفه من بشر في طريقه.

وتبدو هذه الهجمات على المدارس كأنها محاكاة لألعاب الفيديو، وزيادة نسب الجرائم في العقدين الأخيرين يؤكد هذه الجدوى من نشر هذه الألعاب بين الأطفال، ومروج الأسلحة مثل مروج المخدرات يذوي ضميره تلقائيا، وتصبح القيمة الأساسية له في الحياة هي الكسب والربح، دون أن يفكر في ضحايا تجارته.

غير أن لوبي السلاح تيار رسمي منظم في جمعيات ولوبيات لها دور كبير في توجيه السياسة والتشريعات، ولوبي المخدرات غير رسمي دون أن يفقد حظه في التأثير في السياسيين وفي فساد الشرطة والجهاز القضائي الذي غالبا ما تطرح قصصه السينما الأمريكية.

ما الذي يجعل أمريكيا مختلفة عن العالم في هذا الشأن خصوصا؟ وإذا كان الاختلاف يتعلق بالديمقراطية وحرية الفرد الشخصية، فإن الدول التي تحقق سنويا معدلات مرتفعة في هذه القيم تمنع بيع السلاح ما عدا بنادق الصيد المرخصة، في أوربا وآسيا وغيرها، وكلها تتمتع بدساتير محترمة، لكن بالنسبة لها حق الحياة الإنسانية أهم من كل الحقوق الأخرى، وحتى فكرة تقنين تملك السلاح المطروحة حاليا لن تغير من واقع الأمر شيئا.

وأن تزيد العمر المستحق للترخيص، أو تتأكد من سلامة المالك النفسية أو سجله الجنائي، لن يغير من الخطر شيئا طالما كل بيت فيه أكثر من قطعة سلاح، وبإمكان المراهق أو المختل أن يسرق سلاح والده أو أمه ويرتكب الجرائم نفسها. لكن للأسف مصانع السلاح تجارة كبرى ستفلس عندما لا تجد الزبائن، مثلما تفلس مصانع الكوكاكولا عندما لا تجد من يشربها.

غير أن الفارق كبير لأن تجارة السلاح أصبحت ترعب مئات الملايين في الولايات المتحدة الذين أصبحوا يشكّون في كل مراهق يمر بجانبهم ويده في جيبه، وهؤلاء الملايين يعيشون ارتباكا كبيرا حيال هذا الأمر، وهذا الارتباك هو ما يجعلهم لا يخرجون في مظاهرات حاشدة للضغط على اللوبيات من أجل إلغاء هذه المادة الدستورية أو تعديلها على الأقل.

وفي النهاية الضحايا أطفال لا يحق لهم تملك السلاح الدفاعي، ومعلمون لا يليق بهم أن يتسكعوا كرعاة البقر بمسدسات تتدلى على خاصراتهم بين فصول المدارس، وليس من المنطقي أن تضع في مدخل كل مدرسة وروضة مركز شرطة.

كل مجرزة مثل هذه تتحول في أمريكيا إلى جدل سياسي وصراع بين الحزبين النافذين، الجمهوري والديمقراطي، باعتبار الثاني هو المصر على تقنين بيع السلاح والأول يرفض الفكرة من أساساها ويعرقلها كلما وصلت إلى مجلس الشيوخ، وكل كارثة تشعل هذا الجدل من جديد ثم ينطفيء ويهدأ في انتظار تكرار مجزرة أخرى، وتظل لافتة (الحق الدستوري) مرفوعة بقوة في وجه أي محاولة لتقليل جرائم السلاح وتخفيف الرعب الذي يعيشه الأطفال وأسرهم في كل مدارس الولايات المتحدة، ولا أعرف أين يميل الميزان حين نضع رعب ملايين الأطفال في كفة والحق الدستوري في كفة أخرى، وهذا الحق لا يستفيد منه سوى تجار السلاح.

وفي كل المجازر التي حدثت لم يَحمِ ضحايا هذا السلاح حين يكون في أيدي أشرار دمويين، وفي كل المجازر التي حصلت في أمريكيا، لم تطلق رصاصة واحدة في وجه المهاجم من قبل الضحايا الذين من المفترض أن يملكوا السلاج كي يدافعوا عن أنفسهم، ودائما كان المهاجم لا يصاب إلا بسلاح الشرطة أو الأجهزة الأمنية التي غالبا ما تصل متأخرة اعتمادا على أن كل مواطن لديه سلاح يحمي به نفسه.

كل التقارير تقول أن هذه الظاهرة ، ظاهرة المراهقين الذين يهاجمون تجمعات أو مدارس، تختص بها فقط الولايات المتحدة، وإن حصلت في دول أخرى فهي مرتبطة بالإرهاب الدخيل وليس من داخل المجتمع كما في أمريكيا.

وتحيلنا مفردة الإرهاب إلى مفارقة أخرى، ففي كل البيانات الأمريكية بشأن الحادثة التي قتل فيها 19 طفلا ومعلمتان، وفي المؤتمرات الصحفية، وفي خطاب الرئيس، لم ترد مفردة الإرهاب إطلاقا، وهو منحى ينقل الجدل مرة اخرى إلى مفهوم الإرهاب وما المقصود به، فإنْ كان المفهوم يأتي من منطلقه النظري، أيديولوجي تعصبي، فإن النتيجة واحدة وهي إرهاب وترويع الآمنين والقتل الجماعي الذي لا يخلو من نزعة انتحارية، فكل قاتل جماعي يعرف أنه سيُقتل بعد جريمته ولن يعود إلى بيته، لكن مفهوم الإرهاب وصل مستواه العبثي إلى درجة قصوى من الهزل، تجعل تركيا تتهم فنلندا والسويد بدعم الجماعات الإرهابية!!.

إذا لم نُسمِّ قتل الأطفال في فصولهم أثناء الدرس إرهاباً، فما هو الإرهاب؟ وحتى لو أفترضنا أن القاتل مجرد مراهق ولا انتماء تنظيميا يتبعه، ولا يصح أن يُطلق عليه حتى توصيف "الذئب المنفرد"، فإن لوبي السلاح الذي وضع وفق الدستور والقانون سلاحا فتاكا في يده إرهابي بكل معنى الكلمة، والشركات الإلكترونية المرتبطة بهذا اللوبي، وتُسوّق الألعاب التي تدرب الأطفال على القتل دون وجل في العالم الافتراضي، إرهابية بكل معنى الكلمة، ولا يعفيها جميعا كونها تعمل في مقرات فارهة وبموظفين حليقين وأنيقين من تهمة كونها إرهابية طالما منتجاتها تسبب مجازر جماعية ورعبا لفئة واسعة من المجتمع، وسبق أن كتبت عن هذه الألعاب الخطرة التي تفتك لدى الأطفال بآليات الكبح الأخلاقية تجاه فكرة قتل البشر بدم بارد.

بعد ثلاثة أيام من المجزرة، في هيوستن، على مسافة ساعة برا من مدرسة يوفالدي الابتدائية المنكوبة، عقد لوبي الأسلحة الأمريكي واسع النفوذ جمعيته السنوية، في حضور ترامب الذي شدد في خطابه الجمهوري على عدم التفكير في تقنين السلاح، وحيث يسيل الدم وتتكدس الجثث يهجم الذباب ليتغذى عليها، ولا عزاء للأمهات الراكضات في ذعر صوب المدارس، وغير الواثقات من عودة أطفاهن من المدارس للبيوت.