Atwasat

جَلُّود والإصلاح

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 23 يناير 2022, 03:19 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يجري، مؤخرا، كلام غزير بين الليبيين حول مذكرات عبد السلام جلود الصادرة حديثا، والتي نشرت أجزاء منها في الصحافة. ومعظم التعليقات (ولا أقول الآراء) تهاجم، بناء على مواقف "سابقة الصنع"، شخص عبد السلام جلود ولا تتجادل مع محتويات المذكرات.

لم أقرأ سوى القليل مما نشر من هذه المذكرات، وسينصب اهتمامي هنا على تبيان بعض الجوانب في شخصية عبد السلام جلود بناء على معايشتي لفترة نظام معمر القذافي.

فرغم كل ما يمكن أن يقال عن سلبيات شخصيةة جلود وقصورها، وعلى مسؤوليته عن بعض ممارسات نظام القذافي السيئة، إلا أنني أعتقد أن جلود، من حبث هو شخصية سياسية، يتميز بالميزات الآتية:

1) جلود لم يطرح نفسه كزعيم أو قائد أو مفكر.

2) أنه شخص إداري ومفاوض. فهو الذي قاد مفاوضات الجلاء ومفاوضات الشركات النفطية.

3) أثناء الأزمات كان معمر القذافي يختفي ويتولى جلود إدارة الدولة. أبرز مثال على ذلك أنه بعد الغارات الأمريكية على ليبيا سنة 1986 وضع معمر القذافي أسرته في حافلة طائفا البلاد، تاركا جلود يسير شؤون الدولة. وحتى في أزمة لوكربي كان معمر القذافي مستعدا لتسليم المتهمين الليبيين لأمريكا وبريطانيا، شريطة ألا تتجاوزهما التحقيقات. بمعنى ألا يُسألا عمن أصدر إليهما الأوامر، لأنه من المؤكد أن هذه العملية سترتفع إليه شخصيا إذا تم تتبع سلسلة الأوامر.

إلا أن جلود كان يرفض ذلك، وذكر في خطاب، في سنة من بدايات التسعينيات، بمناسبة إقامة نشاط ثقافي في ذكرى الشاعر علي الرقيعي، أنه تم تشكيل فرق قانونية لدراسة القانون الدولي والقوانين البريطانية والأمريكية لبحث علاقتها بمسألة التسليم. ويبدو أن جلود اختار التحدث عن هذا الموضوع في هذه المناسبة ليوصل موقفه إلى المثقفين، وكان يتحدث بضمير الجمع وليس بضمير الفرد.

4) جلود يحظى بقبول لدى "حمائم" حركة اللجان الثورية وبعض ضباط الجيش والتكنوقراط، ولدى بعض المثقفين. وقد ظهر تأثيره واضحا في الملتقى التاسع لحركة اللجان الثورية 1986، الذي انعقد بعد الغارات الأمريكية والبريطانية على ليبيا ببضعة أشهر، حيث ألقى خطابا جريئا ندد فيه بممارسات اللجان الثورية بالقول أن المواطن الليبي لم ير من اللجان الثورية إلا الوجه القمعي. وأنه يجب أن تحدد مهام عضو اللجان الثورية تحديدا واضحا في لوائح ملزمة يتصرف على أساسها من تلقاء نفسه بدلا من أن يظل جالسا إلى جانب الهاتف ينتظر الأوامر.

وقد لعب معمر القذافي، بطريقته البهلوانية، على هذا المطلب بأن نشر، بعد فترة بسيطة من انفضاض المؤتمر، مقالا (ليس باسمه طبعا) عنوانه "دعوة ملحة إلى تشكيل حزب" يرد فيه، ضمنيا، على مقترح جلود من خلال اتهامه، ضمنيا دائما، بأن دعوته هذه تمثل دعوة إلى تحويل حركة اللجان الثورية إلى حزب.

وقد ظهر الانقسام جليا في هذا الملتقى بين الجناح العقلاني الذي يؤيد جلود، والجناح الغوغائي الشعبوي الذي يتبع معمر القذافي، من خلال الهتاف الذي أطلق في هذا الملتقى، والذي نصه: "يا قذافي يا جلود.. عن المبادي لن نحيد"!.

وترددت أنباء أيضا عن أن القيادة السوفياتية وبعض الشخصيات الفلسطينية نصحت معمر القذافي بتشكيل قيادة جماعية. وعبرت القيادة السوفياتية عن ذلك، صراحة، في الذكرى الثامنة عشرة للفاتح من سبتمبر 1987 من خلال برقية التهنئة التي وجهتها بهذه المناسبة إلى "قائدي البلد"! وهذا يعني أن جلود صار يحظى باعتراف دولي، الأمر الذي يرعب معمر القذافي. ويبدو أن معمر القذافي عزم منذلك الوقت على إقصاء جلود وإبعاده عن المشاركة في إدارة الدولة.

5) جلود يفكر تفكيرا واقعيا ويعترف بالازمات والتخبطات التي تمر بها "الثورة" والدولة، على النقيض من معمر القذافي الذي يرى نظامه أمثل نظام توصلت إليه الإنسانية عبر التاريخ، وأن كثيرا من دول العالم أخذت تقلده وتحذو حذوه، وأن العالم، بقضه وقضيضه، سيتحول إلى نظامه. لقد حضرت خطابا لجلود في مناسبة ثقافية على مستوى عربي سنة 1989، بعد خروجي من السجن بأقل من سنتين، ذكر فيه أن البلاد تمر بأزمة و "أننا كنا خائفين على أنفسنا" لذا جرى التصالح مع ياسر عرفات والغرب توفيرا للحماية.

وأذكر أن كامل زهيري، الذي كان يدير الجلسة قال لجلود، بعد الانتهاء من خطابه "هذا لا يعبر عن رأي القيادة الليبية!". فرد جلود ضاحكا "لا. يعبر". ويبدو أن جلود كان يهدف من ذلك إلى إيصال رؤيته الواقعية العقلانية إلى بعض المثقفين العرب.

لا أريد الاستمرار أكثر في أيضاح الجانب العقلاني في مواقف جلود الساسية، التي لم تتح له فرصة التمكن من ممارستها. ولكن، قصارى القول أنه كانت لدى جلود رؤية "إصلاحية" ونية وعزيمة لبناء دولة تمتلك الحد الأدنى، على الأقل، من مؤسسات الدولة الوظيفية.