Atwasat

مؤتمر باريس.. النيء والمطبوخ

نورالدين خليفة النمر الخميس 18 نوفمبر 2021, 12:23 مساء
نورالدين خليفة النمر

حتى نقيم سياسياً نتائج مؤتمر باريس 3 حول ليبيا، نضظر إلى الاستعانة بالتقسيم البنيوي الذي اقترحه الفرنسي كلود ليفي شتراوس لأنتربولوجيا الغذاء البشري، حيث يتعلّق "النيء"، بالطبيعة المنعكسة في غريزة السياسي، بينما يرتبط "المطبوخ"، بالثقافة المتمثلة في حنكته أو عدمها في إدارة سياسة بلاده الداخلية والخارجية.

انفصامية النيء والمطبوخ يمكن تبينها في سياسة حكومة باريس عبر المؤتمرات السيزيفية السابقة التي استضافتها أو المؤتمرات المفضية إلى نتائج إيجابية كمؤتمري برلين والتي شاركت فيهما بإذكاء انقسامية ليبيا المنفصمة في ذاتها. وامتداد تداعيات انقسام الدولة الليبية إلى: أوروبا بتفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية، من الضفة الليبية على المتوسط ، وإلى إفريقيا بنشر ليبيا فوضاها عبر حدودها التي تتنقل فيها بكامل حريتها المجموعات الأفريقية المسلحة كالإسلامية الإرهابية: بوكو حرام التي تنشر أينما حلّت الموت والرعب والفصائل العسكرية المتمردة على حكوماتها المرتبطة بفرنسا، والتي تستثمرها ميليشيات مسمى الجيش في الشرق الليبي والميليشات المنافسة لها في الغرب لتأجيج حروبها الأهلية، وفي شمال أفريقيا زوال ليبيا كنقطة توازن ما بعد الحرب العالمية الثانية عتبةً، أو بالأحرى حاجزاً طبيعياً، إزاء توسع القومية المصرية باتجاه بلدان المغرب العربي المرتبطة بالنفوذ الفرنسي وتاريخه الاستعماري.

هناك عدة معطيات دفعت فرنسا إلى تجاوز غريزتها النئية التي تجلت في مؤتمريها السابقين إلى سياسة إلى حدٍّ ما عقلانية مطبوخة:

1 ـ الإدارة الأمريكية الجديدة التي حضرت ممثلة بنائبة الرئيس الأمريكي مؤكدة في كلمتها على أن "الولايات المتحدة ملتزمة بالعمل دبلوماسيًا لتعزيز استقرار وديمقراطية وإنصاف ليبيا" 2 ـ كلمة المستشارة الألمانية التي أشارت فيها إلى الوصول "لبناء قاعدة مباحثات صلبة مع زعامة الكرملين لسحب مرتزقة وكالة فاغنر الروسية. وفي الاتجاه المُقابل سحب الحكومة التركية الكتائب العسكرية الرديفة لطلائع جيشها، مردفة أن المباحثات تجري على ما يُرام وتتم في مسار تدريجي حسب مُخرجات مؤتمر برلين الثاني حول ليبيا ". 3 ـ كلمة رئيس الحكومة الإيطالية التي أكّد فيها على أن الضامن للقبول بنتائج انتخابات الـ 24 ديسمبر 2021 إصدار قانون انتخابي خلال الأيام القليلة المقبلة يكون محل توافق بين الأطراف الليبية وتتم صياغته بمشاركة الجميع.

كما بينّا في مقال "فرنسا.. ومؤتمراتها الضارّة بليبيا" تماهي الموقف الفرنسي "النيء" من القضية الليبية برواية "الأسود والأحمر" للكاتب الفرنسي ستندال في التنقل بين اللونين بحسب حاجته وبحسب ما يظنه مفيداً له في سياسته الخارجية. وهذا الموقف الحكومي، أي التلاعب باللونين: الأحمر ثوب الرهبان الذي تلفّع به الرئيس والأسود ثوب جنود نابليون الذي لبسه وزير خارجيته مُذ كان في الحكومة السابقة وزيراً للدفاع، حلّ به نحس بطل الرواية جوليان سوريل الذي أودى به للمقصلة. فشل السياسات الفرنسية تمثل بإذكاء نزاع تاريخي مُصطنع وغير مُبرر مع الجزائر، وانحياز إلى اليونان ضد تركيا حليفة الناتو في نزاع التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط. وهذه السياسات النيئة انعكست على تمثيلية الجزائر وتركيا في مؤتمر باريس حول ليبيا. كما أن انسحاب فرنسا من واجباتها العسكرية في الحملة ضد الفصائل المتمردة والجماعات الإرهابية، في دول جنوب الصحراء الأفريقية، دفع أنظمتها لربط علاقة مع روسيا عبر وكالة المرتزقة "فاغنر" تسمح للنفوذ الروسي الإمبريالي من أحد محاوره المهمة في شرق ليبيا بالتوغل في قارة أفريقيا. وبناءاً على هذه المعطيات كانت المشاركة الروسية في مؤتمر باريس حول ليبيا ممثلة بوزير الخارجية الذي يتقن فن المراوغة والتلاعب دون حسم موقف الكرملين من إخراج مرتزقة فاغنر من شرق ليبيا حيث تتمترس هناك في حقول النفط وموانئه .

بالتحوير الذي اقترحه مقالنا السالف في الرمزية بمماهاة السياسة الخارجية الفرنسية بالرواية الستندالية رأينا في المؤتمرين السابقين التلاعب ذاته بين الدبلوماسي والحربي فمن تابع الأخبار المنتشرة في الإعلام بخصوص سياسة فرنسا في ليبيا لم يتسن له أن يفهم فعليا طبيعة الدور الفرنسي في هذا البلد المنكوب بالتدخلات الخارجية وبالذات الفرنسية المريبة .

الرئيس الفرنسي وهو ينضو عنه الثوب "الأسود / الأحمر" تحدَّث عن ثلاثة مكاسب خرج بها مؤتمر باريس الدولي حول ليبيا.1 ـ مشاركة ليبيا لأول مرة في رئاسة هذا المؤتمر بسلطة موّحدة برأسيها رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية.

2 ـ تأكيد كل الأطراف المشاركة على الالتزام بالعملية الانتخابية الليبية في 24 ديسمبر المقبل، وأن تكون متواقتة وشاملة لرئاسة الدولة والبرلمان.

3 ـ حشد الدعم الدولي للعملية الانتخابية تحت إشراف الأمم المتحدة، وعرض المشاركين بالمؤتمر إيفاد مراقبين دوليين يتمتعون بالتدريب الكافي لمتابعة نزاهة الانتخابات وسلامتها من التزييف المتوقع من الطرفين الليبيين المتنافسين.

كما بينّا في مقالة "انتخابات فوز الحكومة" أن حكومة الوحدة الوطنية، المُكرّرة في تاريخيتها لحكومة الاستقلال الليبي التي فازت في انتخابات 1952 كسبت عدة نقاط لصالحها من مؤتمر باريس أبرزها: 1 ـ اشتراط رئيسها أنه لن يسلم السلطة إلا في حال أُجريت الانتخابات المُزمع عقدها في 24 ديسمبر 2021 "بشكل نزيه وتوافقي" وانتهت نتيجتها إلى الجهة المنتخبة من كل الشعب الليبي.

2 ـ دعم الحكومة للمتطلبات اللوجستية والمالية للجنة العسكرية «5+5» لإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب مشروط بأن يكون تحت إشراف مباشر، وبوجود الحكومة الليبية على طاولة أي مفاوضات بالخصوص مع وضع آلية مشتركة تضمن عدم نقل الصراع إلى دول الجوار مما يهدد أمنها وأمن المنطقة. طلب الحكومة الليبية لم تُبدِ عليه باريس اعتراضها. وهذا يعني أن المطبوخ يتموضع خطاباً واقعياً كحكومة مترشحة للرئاسة إزاء النيء الخطاب المتكلم باسم إعادة الدكتاتورية بموضعة ليبيا على مفترق طريقين لا ثالث لهما ـ حسب زعمه ـ هما "طريق الحرية والاستقرار والسلام والتقدم أو طريق التوتر والصراعات والعبث“.

الناضج سياسيا في مطبوخ مؤتمر باريس حول ليبيا هو ماعبرت عنه نائبة الرئيس الأمريكي في كلمتها في المؤتمر: التزام دبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية بإنصاف الشعب الليبي بتعزيز استقراره وديمقراطية ومدنية دولته القادمة .