Atwasat

...لكن القلب ارتبك، وأوقف نبضه، يا نصر الدين

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 05 سبتمبر 2021, 11:30 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

يسهم الأصدقاء بنصيب وافر في تكويننا الوجداني والثقافي وخبرتنا الحياتية. ومنذ شبابي الباكر كنت أضع الصداقة في المقدمة، قبل القرابة. كنت أعتبر أن أخي أو ابن عمي إذا لم يكن صديقي فستظل رابطة القرابة رابطة شكلية، وربما حتى قيدا. رابطة الصداقة يمكن أن تعزز رابطة القرابة، لكن العكس ليس صحيحا.

على أساس هذا الإيمان أفردت في كتابي "أشتات الذات: سرديات العمر"، الذي هو نوع من كتابة السيرة الذاتية، قسما أسميته "كتاب المراثي" يضم المراثي التي كتبتها حول أصدقائي الذين رزئت بفقدهم.

* يوم الجمعة، 3. 9. 2021، تلقيت نعي صديقي نصر الدين القاضي.

* تعرفت إلى نصر الدين القاضي، أول مرة، بداية سبعينيات القرن الماضي. كنت أدرس بمدرسة زاوية الدهماني الثانوية، وكان هو يدرس بمعهد هايتي التجاري. عرَّفنا على بعضنا زميله ابن عمي، على اعتبار أننا، أنا ونصر الدين، نمارس الكتابة الأدبية.

طلبت من ابن عمي اصطحابه لزيارتي، فلبى الدعوة. لكن، للأسف، لم تكن ظروف الزيارة مريحة، بسبب أن انقطاع الكهرباء التهم قدرا كبيرا من وقتها وأسدل عليه ستارا من الظلام الكثيف. قرأ عليَّ بعضا من قصائده وتركها معي. التقينا بعدها مصادفة وبشكل عابر مرة أو اثنتين، وانقطع تواصلنا.

* اليوم التالي ليوم خروجي من السجن، زارني صحبة بشير زعبية ومحمود البوسيفي. لم ألتق بشير زعبية قبل السجن. عرفته في السجن من خلال مرات ظهوره المعدودة والمتميزة في التلفزيون الليبي، أما محمود البوسيفي فالتقينا في اليوم السابق لاعتقالنا من قبل عصابات "اللجان الثورية"، في لقاء مزدحم لم نتعارف فيه. ورغم ضعف ذاكرتي البصرية إلآ أنني تذكرت نصر الدين أول ما لمحته بعد حوالي خمس عشرة سنة من آخر لقاء عابر لنا.

* لمدة حوالي أربع سنوات كان يأتي إلى بيتي، بشكل شبه يومي، مساء ليصطحبني إلى بيته ونلتقي مع الأصدقاء محمود البوسيفي والراحل علي الويفاتي وبشير زعبية، ثم يعيدني إلى بيتي بعد نهاية سهرتنا. بعدها اتسع نطاق الأصدقاء إثر بنائه "مربوعة" مستقلة نسبيا عن البيت. إلى أن انتقلت أنا، بسبب الزواج، إلى السكن بمنطقة النجيلة، فتناثرت زباراتي.

* داوم على كتابة الشعر، وكان شعرا متميزا برهافته وعذوبته:
"يطيب: أن نلوذ بأجنحة القصائد، عسى أن تنبسط أسارير الرغبات الجميلة بعض الوقت. ويليق: أن يوقع القلب إيقاعه الرائق، وقت الصحو ولا يرتبك...".

"لوَّن يومى الباهت ابتسامتها، ومطمئنة تعبر قلبى حين تبادلنى برقة، ورشاقة تحية الصباح فى توغلها الرهيف صوب القلب رعشة اللمسة الولهى واشتعال العصافير...".

* كان يصر على أن يخلق عالما شعريا نابضا بالحياة والجمال والحب والنماء، موازيا لعالم الواقع الشظف المعادي لتطلعات الحياة السوية والممتليء بـ "الطرق الممنوعة والمسدودة" مثلما يقول في إحدى شذراته الشعرية. ولم يكن يحفل بالتقدم إلى الحركة الشعرية الليبية بدافع أن يضع بصمته عليها إلى جانب بصمات الآخرين، وإنما كان الشعر لديه عادة حياتية مثل شرب القهوة أو الشاي أو الجلوس على الشاطيء أو الدندنة بأغنية.

* لكن قلبه النضر صار، شيئا فشيئا، غير قابل، وحتى غير قادر، على التعايش المتوازن مع الواقع المر، فأخذ يبحث عما يجعله يعيش يوتوبياه متجافيا عن الواقع المتشوك متناسيا وجوده.