Atwasat

قولٌ في تأطير ممارسة شعائر وطقوس الديانات والمعتقدات

الهادي بوحمرة الأحد 15 أغسطس 2021, 07:26 صباحا
الهادي بوحمرة

مسألة النص على حرية ممارسة شعائر وطقوس الديانات والمعتقدات لها أبعاد مختلفة، وتُدْرج في صياغات متعددة، وتتم مقاربتها بمناهج قد تبدو متباينة، مع كون نهاياتها متقاربة، فدائما ما تقع في نطاق التقييد لا الإطلاق، وتُؤطر بقيم المجتمع ومبادئه. ومع ذلك لا يرى بعض منتقدي مشروع الدستور لها؛ إلا مقاربة واحدة، ذات صيغة جامدة، لا تقبل التقيد، ولا الاستثناء. ولأن مشروع الدستور لم ينهج نهج المواثيق الدولية وبعض الدساتير المقارنة، فقد وصفوه؛ لهذا السبب، ولأسباب أخرى متقاربة؛ بالظلامي والداعشي. "انظر، على سبيل المثال، مقالات الأستاذ عمر الككلي: داعش ومشروع الدستور، مشروع الدستور والفخ المنصوب، مشروع الدستور والثقب الأسود.". وذلك دون النظر في الصيغ الدستورية والقانونية التي احتوتها التجارب المقارنة، ولا حتى تلك التي نصت عليها الصكوك الدولية، ودون فحص لمآلات إنفاذها. فمنهج مشروع الدستور بشأن حرية ممارسة الشعائر الدينية، والذي نص على أن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع، لا يختلف من حيث النتيجة عن نصوص دساتير أخرى؛ كالدستور المغربي، والتونسي، والمصري، بل إن تبني نص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ونقله حرفيا إلى مشروع الدستور الليبي، سوف لن ينتهي عند الإنفاذ إلا إلى نفس المآل، ولن يذهب بالإلزام إلى أبعد من حق أهل الكتاب في ممارسة شعائرهم الدينية، دون غيرها من المعتقدات.

فعند الرجوع لنص الفقرة الثالثة من المادة الثامنة عشرة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، نجد أنها قيدت هذه الحرية بمقتضيات حماية السلامة العامة، أو النظام العام، أو الآداب العامة. والنظام العام هو مفهومٌ نسبيٌ مرن، لا يمكن أن يسجن في تعريف جامع مانع، وهو يتغير بتغير الزمان والمكان، ويختلف باختلاف مقومات المجتمع والدولة، ولا يمكن الاهتداء إليه؛ إلا من خلال قيم المجتمع، وأسس بنيانه، وموجبات الوئام والسلم المجتمعي فيه، ووفق تقدير المشرع والقضاء للموازنة بين لوازمه وممارسة الحريات. وهي موازنة تُشتق منها الإباحة والحظر، ويُبنى عليها الإطلاق والتقييد.

ففي مقابل سلطة تعتمد على نظام عام قائم على القيم والمبادئ الدينية؛ لحظر أو إباحة ممارسة هذه الشعائر، هناك سلطات تستند إلى نظام عام علماني قائم على قيم ومحددات مختلفة؛ لتضييقها أو إطلاقها. وكله في إطار ضوابط الممارسة التي وضعها العهد الدولي الذي يقدم أولوية استقرار المجتمع، وسلامته، وانتظام الحياة العامة فيه.

هذه هي النتيجة نفسها التي نصل لها- أيضا- عند إنفاذ عدة دساتير تعتمد صيغ ومقاربات مختلفة عن مشروع الدستور الليبي؛ كالدستور المغربي. فعند الرجوع إلى هذا الأخير، نجد أنه؛ في مقابل إقراره حرية ممارسة الشعائر الدينية في الفصل الثالث؛ نص على الآتي:
- الإسلام دين الدولة.

- ديباجة، وضع فيها إطارا عاما؛ لفهم الدستور، وروحه، وأسس بنائه. ويقطع فيها بأن المملكة المغربية دولة إسلامية، وبأن الهوية المغربية تتميز بتبوأِ الدين الإسلامي مكان الصدارة فيها، وبأن الاتفاقات الدولية لا تسمو على التشريعات الوطنية؛ إلا في حدود مصادقة المغرب عليها، وفي نطاق الدستور وقوانين المملكة، والتي فسرها الملك نفسه عند إقرار الدستور بالقوانين الإسلامية.

- ثوابت جامعة تستند إليها الأمة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح.

ويُعد كل ذلك مرتكزات لنظام عام المملكة، والذي يسمح بتقييد إظهار الدين والمعتقد، والحد من ممارسة الشعائر والطقوس. وهو الأمر الذي ذهب بكثير من الشراح إلى القول بأن حق ممارسة الشعائر الدينية في الدستور المغربي لا يتجاوز ما يقر به الإسلام. ومن ثم؛ فهو خاص فقط بمعتنقي الديانات الإبراهيمية.

هذا التأطير لحق ممارسة الشعائر الدينية في الدستور المغربي، لا يختلف عن ذلك الوارد في الدستور التونسي، فرغم أن هذا الأخير نص على أن الدولة كافلة لحرية المعتقد والضمير في الفصل السادس، والذي هو أمرٌ يتصل بضمير الفرد، وبخياراته الباطنة، والتي لا تتقيد بالسكوت، ولا تُطلق بصريح التشريع، إذ لا يمكن للسلطة أن تشق عن القلوب، ولا أن تنفذ إلى بواطن البشر، فحدودها السلوك الخارجي سلبيا كان أو ايجابيا، دون أن يكون بمقدورها أن تمتد لتجريم القناعات الفكرية، أو المعتقدات الدينية، أو الفلسفية، إلا أنه- مع ذلك- نص في مادته الأولى على أن تونس دينها الإسلام ، وعلى تمسك شعبها بتعاليمه ومقاصده في التوطئة، والتي قرر بشأنها حكما واضحا خاصا في المادة 145 بنصه على أن " توطئة هذا الدستور جزءا لا يتجزأ منه". ومن ثم؛ فإن النص على حرية المعتقد لا يمكن أن ينفصل عن كل ذلك. الأمرُ يزداد وضوحا بالنص في الفصل التاسع والأربعين على تقييد الحقوق؛ وفق مقتضيات الأمن العام، وعلى احترام التناسب بين موجباتها وضوابطها.

وبجمع مقتضيات الأمن العام مع ما ورد في التوطئة، واهتداءً بدين الدولة، لن ينتهي الأمر في تونس إلى أبعد من الإقرار للمسيحيين واليهود بالحق في ممارسة شعائرهم الدينية. وهو ما يدعمه الفصل السادس الذي ينص على أن الدولة راعية للدين، وعليها واجب حماية المقدسات، ما يوجب على الدولة حظر كل ما من شأنه المساس بالقيم والمبادئ القائم عليها الدين الإسلامي.

أما بالنسبة للدستور المصري 2014م؛ فإن المسألة قد أخذت صيغا أخرى أكثر تحديدا، مع كون المنهج يستهدف نفس النتيجة، ولكن بمقاربة مختلفة.

فبالإضافة إلى نصه في المادة الثانية على أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، لم يذكر الدستور المصري في المادة الثالثة؛ إلا المسيحيين واليهود. كما جعل؛ وفق المادة السابعة، الأزهر المرجع الأساسي في العلوم الدينية، وأوجب في المادة السابعة والأربعين الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية؛ بجميع روافدها الحضارية المتنوعة.

ومع نصه في المادة الرابعة والستين على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وهو أمر باطني لا يطاله التقييد القانوني، قصر حرية إقامة دور العبادة و ممارسة الشعائر الدينية على المسيحيين واليهود.

وخلافا لما يُقال بشأن دستور الاستقلال 1951م، بأنه ذهب بعيدا بشأن حرية ممارسة الشعائر الدينية، نجد أن نتيجة إعماله لن تختلف عن نتيجة إعمال مشروع الدستور في حال تحول هذا الأخير إلى دستور للبلاد بعد الاستفتاء عليه، إذ إن المادة الواحدة والعشرين منه كانت قد قيدت ممارسة الشعائر الدينية بعدم الإخلال بالنظام العام والآداب العامة، وبما أن النظام العام الليبي قائم على المبادئ والقيم الإسلامية، فإن هذا النص لا يسمح بممارسة شعائر غير شعائر اليهودية والمسيحية، وهو الأمر المقصود من النص باعتبار أن الإسلام يقر بهذه الديانات، وأن هذه الديانات كانت عليها أقليات في ليبيا وقت وضع دستور الاستقلال.