Atwasat

حصن الديمقراطية وحصان الإخوان الخشبي

سالم العوكلي الثلاثاء 03 أغسطس 2021, 10:22 صباحا
سالم العوكلي

بمانسبة ما يحدث في تونس، الآن، من حملة دستورية لتنظيف المسار الديمقراطي مما اعتراه من شوائب وتلوث وفساد، سأكرر ما ذكرته سابقا في عدة مقالات، ويتعلق بمقالة نشرتها العام 2011 أحذر فيها من الفاشية الثالثة المتمثلة آنذاك في مخططات الإسلام السياسي، وجماعة الإخوان المسلمين الليبية خاصة، وأتذكر، وقتها، أن بعض الأصدقاء من المثقفين والكتاب احتجوا على أسلوبي الإقصائي لمكون سياسي بحجة أن الديمقراطية تستوعب الجميع. وكان كلامهم لا يخلو من وجاهة، لكن ردي حينها تلخص في كوني لست سياسيا، ولكني أحسب نفسي على الثقافة، واعتراضي منطلقه ثقافي وفكري يرفض مبدئيا فكرة تسييس الدين، وأن أي جماعة أو حزب سياسي منشؤه ديني هو مشروع فاشية. أعيد هذا، لأني أرى أن تكراره ضروي وليبيا تتعثر في بناء دولتها بسبب هيمنة هذا التيار على مفاصلها، وبسبب الصمت حيال هذا الاستغوال الإخواني من قِبل القوى المدنية، ومن شريحة واسعة من المثقفين والكُتاب، بعكس ما كان يحدث في تونس من احتجاج مدني وثقافي، طوال السنوات الفارطة، التي تحكمت فيها حركة النهضة في مفاصل الدولة التونسية.

طبيعة تكتيك جماعة الأخوان، أنهم حتى ولو لم يظهروا مباشرة في المناصب العليا، إلا أن لهم طريقتهم في التحكم في تروس أدنى، غير ظاهرة للعيان، يرون أنها فعلا هي التي تحرك الدولة، ويخدم هذا البرنامجَ التمكيني الجهازُ السري الذي هو امتداد لما سماه المؤسس حسن البنا (النظام الخاص) الذي يقوم بالمهمات السرية وبالتصفيات وبالابتزاز والتهديد، وهو تكتيك ظهر بوضوح داخل المؤتمر الوطني في ليبيا منذ بدايته رغم أن ما سمي الإسلام السياسي كان يشكل أقلية داخل هذا الجسم، وصولا إلى تمكين خمسة أشخاص من العائدين من حروب أفغانستان والعراق الجهادية من المنتسبين لتنظيم القاعدة من أربعة مناصب وكلاء وزارات سيادية، ورئاسة لجنة الأمن القومي في المؤتمر الوطني، وسبق أن ذكرت أسماءهم بالتفصيل وسير حياتهم الإرهابية في أكثر من مقالة، ليتحكموا في مفاصل حكومة الكيب التي وضعت الأساس لكل الخراب والفساد والعنف الذي حدث بعد ذلك.

كان جماعة الأخوان وحلفاؤهم من جماعات الإسلام السياسي، في تلك الفترة، يعملون بمثابرة فوق الأرض، مؤازرين بدعم قوي من التنظيم الدولي ومن قوى دولية وإقليمية، ولم يواجههم في البداية سوى تحالف القوى الوطنية عبر مؤسِّسِه ورئيسه، الراحل د. محمود جبريل؛ الذي استطاع بحنكته السياسية، وخبرته في العمل المدني، وفهمه لتفاصيل ما تحتاجه ليبيا، أن يشكل هذا التكتل في أربعة شهور، وأن يهزمهم بأغلبية ساحقة في أول انتخابات تشريعية كانت بمثابة استفتاء شعبي يُظهر عدم قبول الإسلام السياسي بكل وجوهه من غالبية المجتمع الليبي. ويرجع ذلك كما قال جبريل في أحد حواراته: تحالف القوة الوطنية مشروع دون تنظيم، والإسلام السياسي تنظيم دون مشروع.
سريعا، استطاعوا التخلص من إزعاج د. محمود جبريل عبر آليات عدة يجيدونها، مثل شراء ذمم الكثيرين ممن وصلوا عبر قوائم تحالف القوى الوطنية داخل المؤتمر، أو ابتززازهم أو تهديدهم عبر فرق الإعدام التابعة لهم، والأهم من ذلك تشريعهم في جلسة ملتبسة أحاط بها 200 تابوت، لقانون العزل السياسي الذي كان مفصلا على مقاس د. محمود جبريل وغيره من الكفاءات. لينفردوا بعد ذلك بالمؤتمر الوطني وحكوماته، ويؤسس جهازهم السري ذراعهم الخاص المسلح، قوة درع ليبيا التي صرف عليها 2 مليار دينار ليبي، إضافة إلى حرس الحدود واللجنة الأمنية، وأوكلت قيادتها وإدارتها جميعا لأشخاص لهم تاريخ إرهابي.

فرغوا الساحة من أي قوة سياسية أو مدنية تواجههم، فحصل أن وجدوا أنفسهم في مواجهة القوات المسلحة التي بدأت تعيد ترميم نفسها في الشرق بعيدا عن مناطق نفوذهم الرئيسية، وبرعاية مجلس النواب ورئيسه في طبرق وفي قلب حاضنة اجتماعية شكلتها القبائل وشباب الأحياء في المدن، وتحول للأسف الصراع إلى صراع عنيف هم حركوه من البداية، واستغلوا هذه المواجهة في ترويج أكذوبيتن تخدم مشروعهم. الأولى: أنهم يواجهون الجيش دفاعا عن الدولة المدنية، والثانية: أن الحرب في ليبيا حرب جهوية.

وللأسف وقعت بعض النخب المحسوبة على التيار المدني وبعض المثقفين والكتاب في حبائل هذه التحريف لحقيقة المواجهة، وكثير منهم شنوا هجوما مباشرا على الجيش، بينما كان الصمت شائعا حيال الإسلام السياسي، ولم ألحظ أي ذكر مباشر لجماعة الأخوان في كثير من الكتابات ـ على الأقل من قبل من مازالوا أحياء من أعضاء اتحاد الكتاب الليبيين حتى العام 2011 ـ إلا ما ندر جدأ.

ما فرض المواجهة العسكرية هو غياب القوى السياسية التي بإمكانها أن تواجه هذا المشروع من جانب، واستخدام هذا التنظيم لأذرعه المسلحة على الأرض، وأما ما أوحى في الظاهر بأنها حرب جهوية، كون نواة الجيش التي بدأت بالقوات الخاصة ما كان لها أن تتشكل أو تعيد هيكلة نفسها إلا في هذه المنطقة بعيدا عن تمركز الميليشيات والنفوذ والمال الأخواني، إضافة لإندثار النفوذ الأخواني في مصر على الحدود الشرقية، وصعوده في تونس على الحدود الغربية ما شكل عمقا استراتيجيا للإسلام السياسي وجماعاته الإرهابية في الغرب الليبي، والأهم من كل ذلك تحكمهم في البنك المركزي الذي سخروه لخدمة أجندتهم.

وترتب عن هذا الصراع المحلي انقسام في تحالفات القوى الإقليمية وفق دعمها لتنظيم الإخون أو نبذها له، وكان تحالف مصر والسعودية والإمارات ضد تركيا وقطر، بينما القوى الدولية التي سبق أن تصارعت على ليبيا قبيل استقلالها كمستعمرة إيطالية سابقة، فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وروسيا، فخضعت تجاذباتها لعوامل أخرى، أهمها النفط والغاز والهجرة غير الشرعية.

في خضم كل هذا، غابت اي مواجهة مدنية معهم على الأرض كما حدث في تونس، ربما لأن ليبيا لها تجربة سابقة مؤلمة مع حكم جاء عبر انقلاب عسكري ولم يجربوا الإسلام السياسي بعد، وأصبح الصدام العسكري مع ميليشياتهم في واجهة الصراع، ورغم كل ما عاناه الجيش؛ الذي هو تركة مرحلة سابقة همشته وفتتته، من مشاكل وما تعرض له من انتقادات، بعضها وجيه، كاستعانته بقوى داعمة داخلية وخارجية وبتنظيم ديني مشبوه كحليف، إلا أن هذا ما فرضته المواجهة العسكرية التي بدأها الإسلام السياسي المدعوم بقوة عبر اغتيال المئات من العسكريين ومن رجال الأمن ومن النخب الوطنية، وعبر حرب فجر ليبيا، وعبر التحالفات العسكرية مع قوى إقليمية داعمة لأجندة الإخوان في جل منطقة الربيع العربي. بل إنهم استطاعوا أن يؤسسوا قاعدة قانونية لهذه الدولة في مشروع الدستور الذي سيطروا على صياغته رغم قلة تمثيلهم في هياة الصياغة عبر تكتيكاتهم السالفة الذكر.

وأنا هنا أتحدث عن طرفين يتواجهان مباشرة فوق الأرض، لأن ثمة أطرافا أخرى غائبة عن المشهد خياراتها مختلفة وضد المنظومتين، لكن الفارق بين المنظومتين، يكمن في ما إذا سلمنا بأن وجود جيش أو نواة جيش، ضروري لأي دولة، ويشكل أساسا لبنائها ويمكن توحيده ودسترته وضمان ابتعاده عن السياسة عبر القانون كما في تونس، فالطرف الآخر متطفل على الدولة، بل هو ضد مفهوم الدولة القطرية من الأساس، ما بالك بالدولة المدنية.

كانت هكذا المواجهة على الأرض، وكان لابد من اختيار الأولويات في الانحياز، لأن هذا التيار الإرهابي المستغول والمسلح والمدعوم من قبل قوى كبرى لن توقفه البيانات ولا المقالات ولا المحاكم الدستورية ولا قصائد الشعر، وما يحدث الآن في تونس يؤكد هذا المنطلق، فلولا سهوهم على المادة 80 من الدستور التونسي الذي سيطروا على صياغته لذهبوا بالدولة التونسية ذات الديمقراطية الناشئة إلى هاوية لاقاع لها، ولولا وقوف معظم الشعب والنخب المدنية والمثقفة مع إجراءات الرئيس الدستورية لما تراجعوا خطوة للوراء لأن خيارات العنف دائما حاضرة لديهم، فهم يستقون شرعيتهم من السماء وليس من الأرص، وهم منقلبون فطريون على الحياة والمستقبل والديمقراطية والدولة المدنية التي تتناقض جميعها مع قاموسهم وعقيدتهم، ومن باب الإسقاط النفسي يصفون أي مواجهة لهم بالانقلاب، هذه المفردة التي تتكرر بإسفاف في بياناتهم وخطاباتهم وفي القنوات المروجة لهم.

توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية الليبية، وتحالف قطاعات الشعب معهم ضد هذا التيار المدمر، هي السبيل الوحيد لإنقاذ ليبيا من هذا السرطان، كي تشرع في بناء مؤسساتها وصياغة دستور مدني يحترم الناس والعصر، والبدء في مشروع مصالحة وطنية شاملة لن يعرقلها أحد حين يخرج الأخوان وميليشياتهم من المشهد الليبي نهائيا.