Atwasat

نعمة الأصدقاء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 19 يوليو 2021, 11:22 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لم أعد أخطط، مثلما كنت أفعل، عقب عودتي من "جلسة حرايمي (بنكينة) بنغازي" للطرق التي أنصب بها فخاخي، وأين أنشر سنانير مشاريع اليوم التالي، لأنني "هرمت" فتقاعدت، أو بمعنى أدق، أقعدتني السنوات التي زادت عن حقب عمري السبعة. قبل مرحلة تلك الجلسات بقليل، "كنتُ قد نلتُ كفايتيِ من كل شيء"، فوضعت "المداري على التبن"، وما فكرت في العودة إليها!

الآن، في منفاي الاختياري، تقاعدت في القاهرة، وبدلا من الفخاخ أمسيت أخطط لكيفية سرد حكاياتي، التي أنتقيها من جراب ذكرياتي، أستبعد منها الحكايات عن أولئك الذين "سرقوا المداري !"، فليس من عقاب للصوص المداري، أبشع من تجاهلهم، وحرمانهم من الذكر، حتى لا تجد ذريتهم تاريخا لهم سوى "حكايات وقصص مداري التبن"، وسيحاولون تلفيق الحكايات، ولكن سيكون أطفالهم قد أصبحوا رجالا وبالتأكيد متعلمين، وبالتأكيد قادرين، على فهم لماذا ليس في سجلاتهم المشبوهة سوى"التبن والمداري" عندها لن تشفع لهم سيارات الدفع الرباعي، السوداء منها ولا الملونة أيضا، ولا المحلات الباذخة ولا المطاعم، ولا روائح الحرايمي الشهية!.

الآن، أثناء قراءتي الليلية من بعد العشاء-لاحظ أنني أسقطت كلمة "جلسة" التي سبقت ما بعد العشاء في السطر الأول! - وعندما تصادفني فكرة، أو حكاية نافعة، أو حتى مسلية، أنتقي لها سيناريو شائقا، أستحوذ به على انتباه الرفاق عندما نتحلق حول منضدتنا في الركن الشرقي في جلستنا الصباحية بمقهى "جردل النجوم"، والتي نحرص أن تكون في مواجهة نضد الخزينة حيث يتم الطلب والسداد، لأننا من ذلك الموقع نرصد بوضوح مؤخرات الشابات، في بنطلوناتهن، التي كلما كانت ملتصقة بأجسادهن، كلما طال صمت وشرود الرفاق! خصوصا عبد الجبار الذي يفقه في كل شيء ولا تستطيع أبدا أن تتحدث عن أحد ما من دون أن يتدخل، ويؤكد أنه يعرفه ويحدثك عن تاريخه، وتاريخ عائلة جد بوه!

وبسبب تدخله ومقاطعتي المتكررة، خططت له حكاية انتبه من بعدها ألاّ يقاطعني، ولكنني أحسست أنه كرهني! فلقد حدثتهم ذلك اليوم عن شخصية قوية استطاعت أن تتصدر الثوار، أو بمعني آخر اللجان الثورية، وأن تناكفهم، حتى أنهم لم يتسلطوا عليه، ومن بداية حكايتي وهو يسألني: "من ؟ أكيد نعرفه؟ منين من بنغازي؟.. لا بد أنه من سرت؟" وعندما صمت، وصمت الرفاق، قلت:

- "ET ! عرفته؟ إنه ذلك المخلوق الفضائي الذي ابتدعه المخرج Steven Spielberg ! المخلوق ET لا يعرف أحدا في الأرض، لا قبيلة له، ولا أصحابا، ولا أصهارا، ولا ثورة صنع منها عنوانا له، لا في عهد القذافي، ولا الآن .." ثم نظرت مباشرة في عينيه، متبسما واستطردت: "تعرفا؟". مط شفتيه، وقال عبر تكشيرة ليست ودودة أبدا: "عيب (الهزوة).. أنا غلطان؟ لأني أنصت لـ(قطافك)". ومنها، والحمد لله، تجاهلني تماما.

ولكن بقية الأصدقاء، خصوصا مهدي، وأيضا، يوسف، يجيدون الإنصات. ولذلك أبادلهم، هذ الميزة، التي تجعل الذين "هرموا" يحبونك كثيرا لأنك تنصت إليهم، فلقد انتبهت إلى أنه لم يعد أحد من عائلتي يهتم كثيرا، لا بحكاياتي، ولا ببطولاتي، وشطارتي في التعامل مع المواقف كافة! فلا أحد يبدو أنه يهتم بحكايات أولئك الذين يمارسون رياضة المشي الصباحية بالعكاكيز، إلاّ رفاقهم الذين يمارسون الهواية ذاتها!

لم يعد الليل يغيرني بذلك الكرسي طويل القوائم، والاتكاء على حافة النضد الطويل الممتد في ركن تلك الحانة، الذي يمكنني من رؤية صرامة الرواد عند دخولهم، وترنحهم عند خروجهم. أمسى ذلك الكرسي الوثير ذو المسندين، الذي يمنحني المساحة التي أمد عبرها ركبتي، هو مكان جلستي المسائية المفضلة، أحيانا أنصت إلى ما يدور في رأسي، وأحيانا أسترجع طرفه، فتضحكني، فيضحك، من ضحكتي، من يلمحني من أفراد أسرتي، وكثيرا ما يهدهدني الهدوء فأغفو إلى أن يصحيني أحد، من بعد العشاء، أو قد يقودوني إلى فراشي، وأنا في غيبوبة خدرة ممتعة.

من كتاب باولو كويلهو: "كالنهر الذي يجري" قرأت حكايته "الموت الذي كان يرتدي المنامة" التي تحدثنا عن شخص وجدوه مجرد هيكل عظمي في سريره مرتديا بيجامته، وبجانبه أغراضه كلها، في عمارة لم تنجز، وظلت طوال عشرين عاما مجرد هيكل، بسبب إفلاس الشركة المنفذة، وما ترتب عنها من إجراءات قضائية. وبالبحث والتدقيق اكتشفوا أنها لموظف كان يعمل في الشركة، وأنه لم يتوافق مع زوجته فتطلقا، وغادر المنزل مفلسا، ويبدو أنه أقام في طابق من ذلك المبنى، لفترة ثم مات بغتة، لأنهم وجدوه في وضع نائم مستندا على كفيه، وليس هناك ما يدل على جريمة. ولأن زوجته لم تقلق عليه لأنهما تطلقا، وظنت أنه غادر المدينة، وغاب الرجل عن ممارسة حركته اليومية، وكان من دون أصدقاء، هادئا في حاله. لم يتذكره أحد سوى بعض رفاقه، كانوا يعلمون أنه مدان ببعض المال استلفه وعجز عن سداده، فاعتقدوا أنه غادر المدينة. قد يكون الرجل مات كمدا، فلا شيء يقلق المرء مثل العجز عن إيفائه بالتزاماته، خصوصا إذا كان لص مذاري تبن! وقد يكون ذلك السبب الرئيسي في طلاقه. والزوجة لم تبحث عنه، معتقدة أنه وجد امرأة أخرى، لأنه لم يعد يحبها وهجرها، فمن العادة، أنه ما إن تنتهي معاملات الطلاق حتى ينتهي كل شيء.

لقد تأثرت مثلما تأثر الكاتب، فإن ما هو أقسى من الإفلاس: ".. والجوع والعطش والبطالة، والألم والحب ويأس الهزيمة، هو ألاّ أحد يهتم بنا!" فما أقسى عالما تعيشه" وحيدا، كقطرة مطر، أو كريشة سقطت من جناح طير" من دون أصدقاء، حتى ولو كانوا لا يعرفون من هو (ET )". فلنبتهل ونشكر على الدوام نعمة الأصدقاء. الأصدقاء الشرفاء الحقيقيين. أحمد الله أنني أعرفهم فردا فردا، وفردة فردة!