Atwasat

بين الكره والعمق والتوازي

رافد علي الخميس 15 يوليو 2021, 11:08 صباحا
رافد علي

من أبرز نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة بفرنسا الصعود الكاسح لحزب الجمهوريين بعد انتكاسات عديدة شهدها الحزب بعد فضائح سياسية وأحكام قضائية طالت زعيمهم نيكولا ساركوزي، فقد خرج منذ الجولة الأولى حزبا التجمع الوطني المتطرف برئاسة السيدة لوبان، وحزب الجمهورية إلى الأمام الذي أسسه الرئيس ماكرون، واللذان استحوذا علي النقاش والجدل السياسي في الأعوام القليلة الماضية، باعتبار أن الحزبين كانا يشكلان على مسرح السياسة بالبلاد قطبي الحكومة والمعارضة.

وقد اختلفت التحليلات السياسية وتضاربت بالخصوص، إلا أن الصوت الإعلامي البارز حاول إبراز أن سقوط الحزب اليميني المتطرف علامة لتراجع التطرف والكره للآخر.

الكره والتطرف وخطابهما أصبح من ضمن الظواهر اللافتة للانتباه في "العالم المسطح"، على صعيد السياسة أو علي مستوي الاجتماع. فالعولمة السائدة اليوم عبر فتح الحدود وتدفق البشر والبضائع وبروز مجتمعات متعددة الشرائع والأجناس تتمظهر فيها بقوة واقعية التعصب والتطرف والكره.

ريتشارد سينت، عالم الاجتماع الأمريكي، يرى أن الإنسان المعاصر الذي يمتلك تقنية حديثة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، يفتقر أكثر من غيره لمهارات اجتماعية أصيلة كمهارات التواصل التي تبيّن مدى نجاعة فطرة الذكاء الاجتماعي، كما يشير سينت إلى نقص عادة الاستماع عند الإنسان المعاصر، مما يقلل من خلق فرص للتفاهم والتعاون. سينت في دراسته لم يكن الوحيد الذي حاول تحليل التواصل البشري الحديث بغرض الوصول لمعرفة مدى إمكانيات كبت الكره والعيش ضمن مجتمع مفتوح ومتنوع.

ففي عصر الحداثة، وفي ذروة الآيديولوجيا، ساد الحماس لفكرة أن تخوض مجتمعاتنا "محطة" المجتمع المتنوع، كتجربة غنية في حياة الإنسان. فالشيوعيون بشيء من النزعة المثالية، اعتقدوا بأنه مع زوال الطبقات ستختفي العداوات والصراعات والكراهيات بمجرد زوال الملكية الفردية ووصولاً للشيوع.

فالحداثيون اعتقدوا أن التقدم الهائل في تاريخ تحديث الإنسان وقيمه المعاصرة، كالفردية والعقلانية، سيخلقان "ثقافة كونية" تنسحب فيها القوميات والطوائف وتتراجع العداوات والكراهيات.

هذه اليوتوبيا لم تتحقق بعد للأسف، إذ لازالت الكراهية بكل خطاباتها وممارساتها الوحشية، أحياناً، تشكل جزءا من الأخبار اليومية. فالكراهية والعداء داخل الأمم، أو فيما بينها، لا زالا موجودين ولهما منصاتمها. ففي فرنسا مثلاً، لازالت مقابر اليهود والمسلمين تتعرض للهجوم وللتشويه بإبراز عبارات لا إنسانية، ومظهرة رموزا للنازية او للفاشية، ولعل هذا يقابله في بقاع أخرى هجوم مماثل على الكنائس والمعابد والمقابر والمساجد.

إن العزلة الجغرافية، التي حاول العديد من أهل الاختصاص اعتبارها سبباً للكراهية في المجتمعات المنغلقة على ذاتها، لازالت العولمة لم تبيّن أن "التسامح" يقوض حالات الكره بشكل ناجع ومستمر.

ففي ليبيا مثلا، حيثما الشعب متجانس دنيا ومذهبياً، نجد ان الكراهية تتخذ بين أبناء المجتمع الواحد نهجاً مُربكاً، إذ عاش الليبيون عبر تاريخهم في أرضهم الشاسعة بمناطق متباعدة، ولم تشفع لهم، طفرة النفط، وحالة امتداد شبكة الطرق البرية والجوية التي ربطت بين أجزاء البلاد مترامية الأطراف لخلق تقارب يفوق النزعة الجهوية او المناطقية، فالعزلة يبدو أنها عزلة ذهنية، أو عزلة روح تفوق حالة عزلة المكان، ودون مستوى حقيقة أي تواصل بشري، مباشر أو عداه، لأجل خلق جسر حقيقي تحت لواء "وطن يجمعنا"، بعيداً عن أي شعارات سياسية كانت موجودة في اي حقبة من حقب الحكم بالبلاد.

أتمني أن نطلع ذات يوم على دراسة ليبية تحلل معضلة الكره والكراهية ضمن المناطقية والجهوية بالبلاد. فالتسهيل الهائل لوسائل التواصل التقني الحديث، أثبت أن التنافر والكراهية لازالا خطاباً يفترس الليبيين في صميم أزمتنا السياسية بكل عنفها، مما يستدعي الوقوف عند هذا المأزق تفكيكاً وتحليلاً لفهمه واستخلاص العبر منه. فدراسة كهذه فضلاً عن أنها ستضع الذات أمام الآخر، فإنها ستضع الذات الليبية في مواجهة ذاتها، وستكشف لنا عما عشناه من تواصل مفتوح كمجتمع طوال نصف القرن الماضي، والعقدين الأول والثاني من هذه الألفية، ما إذ كان مجرد نفاق إجتماعي؟! أم أنه كان حالة تقية اجتماعية؟ أم أنه كان تواصلا سلسلاً على طفح المكبوتات؟!.

إن الحرب الأهلية الليبية التي عشناها بكل ما فيها من كشف للكراهية وللأحقاد وللتشفي، ليست هي الحرب الأهلية الأولى في تاريخنا، فمن الواجب الآن، ونحن نمتلك العلم باختصاصاته المختلفة، أن ننكب على فحص منابع هذا الكره تحليلاً، ليكون زاداً تستزيد منه الأجيال القادمة بما قد يكسبها مناعة ضده، أو أن يقدم لها دليلاً لتجنب انفجاره مجدداً في وجوهنا، كحيطة من "َمكر التاريخ"، خصوصاً وأن البلاد بأزمتها السياسية المعاشة، بكل المغالبة والكره فيها، تبدو متجهة نحو حل المحاصصة في الحكم، بما يعني أن المناطقيات والجهويات، بكل شوائبهما، هي النهج الغالب في فرض الأمر الواقع، فالتنازلات من الأطراف المتورطة بالأزمة لأجل تسوية حقيقية لازالت صعبة ومعقدة، فالاستحقاق الانتخابي بديسمبر القادم لازال خطوة تواجه الجمود السياسي رغم كل تصريحات التشديد عليه من العواصم المعنية الأمر.

فالمخاصصة في صميمها تعني الاشتراك في صنع كيان يكفل للأطراف فيه وزنها ونفوذها ومصالحها بلا تنازلات موضوعية تصب لصالح هيكل الدولة المرجوة، أي أن عمق دولة المحاصصة هذه لا يصب في خانة سيادية لهيكل محايد، يمارس سلطة الإكراه القانوني المُدستر، كما في "الدول المحترمة"، بل سيكون عمقاً لـ "هويات" أو "كيانات" مختلفة أو "دويلات" متعددة، قد يجبرها الحال للتعايش مع الدولة الموازية؛ الظاهرة التي نعيش مدة سنوات، إذ لازالت هناك هياكل وتنظيمات لا تعتبر جزءا رسمياً من "الدولة الشرعية" أو حكومتها وفق روبرت باكستون صاحب مصطلح الدولة الموازية.

لعل من حسن التدبر في أزمتنا الراهنة في ليبيا، وبكل أبعادها، أن ننخرط في دراسة شخصيتنا وذهنيتينا وبالتالي مجتمعنا، لأجل تحقيق مكاشفة مع الذات تسمح بمعرفتنا لأنفسنا بشكل أوضح وأعمق، وهذا لا يتطلب الوقت والمال وحسب، ولكنه يستوجب، في المقام الأول، شجاعة وموضوعية منا، إذا ما كنا صادقين لفهم منابع معضلتنا مع أنفسنا، وفيما بيننا، وبلا إلقاء كل الأمر علي السياسة والتدخل الأجنبي وتدابير خلط الأوراق المعتادة.