Atwasat

أنا في الإنترنت إذا أنا موجود!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 29 يونيو 2021, 10:38 صباحا
أحمد الفيتوري

• التجلي الخفي!
ما فعلته الانترنت، ومن ثم السوشيل ميديا، أنها جعلت الشخص دون أيقونة، أو أنه مواطن عالمي، حيث كل مدون على الأنترنت، كما لو كان يعيش في غرفة، يتمكن منها كل من يجيد لغته أن يطالعه. فالانترنت فتحت العالم، أمام كل أحد دون إذن من أحد، ومنحته أن يكون هو هو، كما يحب ويرغب، وغصبا عن كل من يكره ويتذمر. فالتدوين عبر الإنترنت، عبر الفيس بوك أو توتير أو ما في حكمهما، كما لو كان الدفتر الشخصي لأي منا، هذا الدفتر الذي نحب أن يطلع عليه كل من يحب ويرغب. إذا التدوين عبر الانترنت، حريتنا التي نختارها عن جدارة، كما يختار من يحب الاطلاع عليها من عدمه.

في هكذا حال تتنوع المدونات، بتنوع البشر المدونين، بعضنا سيجعل مدوناته، مثلما البوح للحبيبة أو كما الشعر... وفي هذا، ثمة قصة شهيرة عن ستالين، أنه اطلع مرة على ديوان شعري لشاعر روسي مميز، وكان الديوان غزليات الشاعر في محبوبته، فتساءل ستالين كم طبع من هذا؟ أجيب 200 ألف نسخة، فأمر بأن ترسل جميع النسخ إلى الشاعر في بيته، كي يتدبر كيف ينقلها لمحبوبته.

هكذا هو ستالين في كل زمان ومكان، ما ليس علي هواه يصادره. عبر الإنترنت تمت إزالة اللثام عن الحدود، بإزالة الحدود ذاتها، وأصبح ستالين كمن يطارد المستحيل، في القصة الفائته، نسخة واحدة من ديوان الشاعر سربت، فحفظتها ذاكرة عشرات الآلاف من العشاق، ومع الانترنت لم يعد ثمة أسوار، ليس ثمة حدود: بيتي هو العالم، مع عالم الميديا والانترنت، وبالتالي أنا في كل العالم.
والإنترنت تمنحنا أن نكون أحرارا، حتى في إنكار أسمائنا، والاكتفاء بكنية كمجهول مثلا ، إنها تمنحنا أن نكون أشخاصا اعتباريين: معلق، مطلع، مشاغب، أهوج،.. إلخ .

لم نعد بحاجة لتقديم أيقونة الهوية: الاسم والديانة والبلد.. إلخ .

عبر الإنترنت أنت تدون حتى جنونك، تلبس أي لبوس وتتقنع بما تريد، وكذا المعلق على ما ندون، حين نتيح إمكانية التعليق، لقد تمكنا من تعرية النفوس دون غصب أن نري وجوهنا، وفي هذا أذكركم بقصة الأستاذ الذي كان يلهو عاريا على البحر، فمرت به ثلة من تلميذاته، خجل فأسرع بتغطية وجهه بيديه. هكذا تبدو الصفحة/ المدونة/ الإنترنت، إزاحة مضطردة للمسؤولية، باستثناء المسؤولية الأخلاقية، التي هي مسؤولية ذاتية محض.

يبدو أن الإنترنت وسيلة بيضاء، لا تحملك أية مسؤولية، غير ما تحمله على نفسك، إذا المدونة تمنحك أن تتعرى، مخفيا عن الأعين، سنرى أصابعك، دون أن نتمكن من تحديد بصماتك، ستنضح كعين ماء أو مجارٍ أو بركان.. إلخ، نرى النبع لكن لا نتمكن من معرفة المصدر، فيبدو وكأن الإنترنت تعطيك طاقية إخفاء إن شئت.

لكن تمكننا من الاطلاع علي مكنونك، حتى ولو كان مكنونا مزورا، فالإنترنت بمثابة فضيحتنا في هكذا أحوال، أمام أنفسنا ليس إلا.

• مدونة سريب
عبر مدونات "مكتوب" الشهيرة، نهاية القرن الماضي أسستُ مدونة أسميتها "سريب" تيمنا بسم أول رواية نشرت، وفي عام وصل زوارها "المليون"، البيت الثقافي بدرنة بإدارة الشاعر سالم العوكلي، أقام لي حفلة بالمناسبة.

ولقد كان لي مع سريب، سريب من البحث والتنقيب، والاطلاع والفحص والتقليب، جلّ اليوم من آخره حتى أوله، أسبح في ملكوت الانترنت، ولا عاصم غير إرادتي. تشتط بي السبل هنا وهناك، والآن وما قبل وما بعد، اليوم في مطلعه، أستقبله قبل أن يصلني، وأتبعه وقد غادرني. كنت أرى الشمس، وقد طلعت عبر الإنترنت، وأحتفل بالعام الجديد قبل أن يبدأ عامنا، كنت كل يوم في كل مكان.

وقد وجدت أن اللغة لا مكان لها، إلا إذا كان للإنسان مكان، فالعربية لغتي، حيث ثمة من يستخدم هذه اللغة في الدنيا كافة. كل مدون أدين له، وكل مدونة مدونتي، من حيث إني قارئها ولكل قاريء قراءة. لقد فتحت الكتب، وأخذت الكتاب بقوة، وصارت الأسفار سفري، كما لو كانت شبكة الانترنت بساط الريح، وكما لو كنت سندباد. ولاعتبار أن ناقل الكفر ليس بكافر، فلقد جعلت من سريب البراح، سريبنا جمعا، نحن من نطلع على هذه المدونة، ولم أحر في أمور كثيرة، لقد أطلقت يدي، وفتحت هذه النافذة بطريقتي، طريقة العصافير الطليقة.

واعتبرت سريب سريبي، بيني وبين من يحب، هنا لا حرج، فالمدونة بطبعها طبع شخصي محض، وفي هكذا حال ليس ثمة هدف، أو معنى محدد مسبقا، فكل ما يجوز يجوز، وكل ما يلزم يلزم حتى أنه قد يلزم ما لا يلزم، لأنه في اعتقادي، المدونة الحرية، دون حدود من أحد .

وحتى المعايير، المتعارف عليها في حالة الدفتر الشخصي، تنقض جميعها أو بعضها، تقبل جميعها أو بعضها، فالمعيار الذي جاءت كي تكرسه الإنترنت هو الحرية، و لا رادع أمام الحرية إلا الحرية: هكذا الحرية سلاح كل منا، في مواجهة أي عدوان، كما لو كانت الرادع النووي.

لقد تمكن أي منا أن يكون، هكذا تحول الجميع حقا وفعلا إلى صاحب صوت وصورة، هكذا لم تعد مسألة التعيير، في يد هذا وليس لهذا يد فيها. هذا مما مضى.

المعايير بدأت أيضا، مسألة خارج الطغيان، فلم يعد بمكنة طاغية ما، أن يضع لنا معياره باعتباره المعيار.
سريب كما لو كانت رقعة شطرنج، لكن خصمي علي الرقعة المجهول، وهكذا كما لو كنت ألعب مع أنا، وبهذا كنت مسؤولا تجاه نفسي، وما ترى وما تحب وما تستطيع... إلخ .

وفي حالي هذا، ضميري حكم بيني وبين نفسي، فسريب لعبة فيها الخاسر والكاسب واحد، ولهذا وجدت في الرقعة، من يشاركني اللعبة، من محبين وأصدقاء، من حرصهم أكثر مني، باعتبار أن أنا هو الآخر، لا أعرف بدونهم، كيف كنت سأجهد وأتبعثر وأضيع، من الطريق طريقي.

لقد كانوا الحكم، حين كنت الخصم، فالسريب بطبعه يأتي بسريب آخر، وبينهما كان الأصدقاء مدونين لهذه المدونة، التي كأنها مفرد بصيغة الجمع، وإن كانت جمعا في صيغة مفرد.

هل الرقم فاصل، في صلاة لا يجوز الوضوء فيها إلا بالدم، أو كما صلاة الحلاج، صلاة مبتدأها العشق لا طائل فيها عدد الركعات، فإن كتبت لمن تحب، فكن كما السكارى، ولا تعد الكوؤس. في طفولتي كنا لا نحب من يعدنا، وكان لنا أغنية نرددها، كي نتقي شر من يعد، مخافة العين والحسد، لعل الأغنية تقول: اللي عدنا نعدوه... وفي القبر ندفنوه.

إيه سريب.. هكذا نحتج في اللهجة العامية، في شرق ليبيا على من يلح ويطيل، وهكذا يبدو أن طول الخيط يضيع الإبرة، فلا طائل من البحث في مسألة االإنترنت/ المدونات لأنها كما مسألة نكون أو لا نكون، أي هي مسألة شخصية، وللمرء أن يحقق حيثيته كما هو متاح، ومتاح لك ما لم يُتح ..