Atwasat

إيمان الدلاع!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 يونيو 2021, 10:26 صباحا
محمد عقيلة العمامي

بعد وجبة عشاء باذخة في قرية وادعة في الدلتا المصرية، احتد صديقي المصري، وهو أستاذ في الفيزياء في نقاش ديني مع زملائه في إحدى الجامعات المصرية. كانت الوليمة تكريما لزملاء لي وله من ليبيا. قال لهم، ساخرا، أثناء النقاش: "أن ما ينقصكم هو إيمان البطيخ ". المقصود بالبطيخ هنا "الدلاع"، لأنه كانت أمامنا أبراج حمراء أحضروها بعد العشاء، فصديقي وأبناء قومه، يسمون الدلاع البطيخ-

ولما قلت له، مشاكسا، نحن في ليبيا نسمى البطيخ: "دلاع" فهل تقصد إيمان البطيخ فقط، أم الدلاع أيضا؟ فسألني: "يعني أنكم لا تسمون هذه الفاكهة بطيخا؟" أجبته: "البطيخ، اسم للفاكهة التي تسمونها انتم، ونحن أيضا: شمام".

أجابني: "هو إيمان يشمل الشمام، وبالتأكيد الدلاع مثلما قلت، ولكن "إيمان الدلاع"، في تقديري، هي التسمية الأفضل: أولا، لأن إيحاء كلمة الدلاع أقوى لما أنا بصدده، بسبب العلاقة الوطيدة بكم وباللون الأحمر. قاطعته هازئا: "تقصد أننا (أهلاويين)؟". أجابني ساخرا: "لا، شيوعيين!" ثم استطرد يشرح بهدوء: "هل تأملت يوما ما الدلاعة من بعد أن تقسمها أبراجا؟ هل تساءلت كم عدد البذور السوداء التي تحويها الدلاعة؟ التي أشك أن أحدا ما عدّها، إنني أقدر أنها بضع مئات، ثم هل انتبهت إلى اللون الأبيض؟ الذي يفصل لب الدلاعة الأحمر عن لون قشرتها بمستويات لونها الأخضر، وتشكيلاتها البديعة، التي لا يستطيع أعظم الرسامين محاكاتها بدقة خلقها. حسنا! والأهم من ذلك كله، هل انتبهت إلى أن كل هذه البدعة أساسها بذرة واحدة، وأنك لو احتفظت بها بعيدة عن التراب سنوات، وأعدتها إلى التراب، سوف

يزحف ساقها وتتفرع منه أذرع قصيرة ينتفخ منها الدلاع، يعني أن البذرة الواحدة ستعطيك عربة من الدلاع!.." ثم التقط قطعة منها والتقط منها بذرة، واستطرد: "هل فكرت في أن النمل عندما يأخذ أية بذرة، مثل هذه أو بذرة قمح أو شعير، ليخزنها لوقت الحاجة إليها، لا يتركها سليمة، بل يقطعها، حتى لا تحتضنها أمنا الأرض فينبت قمحها أو دلاعها؟ والسؤال هو من صنع البذرة ومن علم النمل كيف يوقف

نموها؟.." ثم وجه حديثه إلى صاحبنا الذي شاكسه، وقال له: "هذا هو إيمان الدلاع! أيها المفكر الحر، أليس هذا ما وصفت به نفسك "I'm Free Thinker? "، هكذا نطقها بنغمة هازئا! ثم واصل يحدثنا، عن أحد رفاقه من علماء تخصصهم، قال إنه خلال محاضرة ظل معجبا بها بسبب سخرية رجال الدنيا من خلق الحياة، وفسر بداية الحياة، بأسلوب العالم الملحد، بداية تكوين الأرض، واصفا عصور

"الآيوان"، وكيف تكونت قشرة الأرض، على مر العصور نتيجة تفاعلات كيمائية، من الغازية إلى السيولة، إلى الصلابة، وكيف أن الأرض كانت مطمورة في مياه المحيطات، وعلو الأمواج وهبوطها كونت القشرة الأرضية الصلبة التي نعيش عليها، وسط انبهار مريديه بعلمه من خلال البهجة والتصفيق، إلى أن برز طالب مبتدئ، وأثنى على علمه وسرده، وتأكيده على أن قوة الأمواج خلقت قشرة الأرض، واعتذر منه وسأله بعفوية: "ولكنك، يا أستاذ، لم تخبرنا: من أوجد في البداية مياه هذه الأمواج؟" وساد الصمت ثم لكَلَك" العالم وهمد مريدوه.


أعترف، على الرغم من أنه لم يكن يقصدني! أنني بهتُ، صرت بلا ملامح، لا أدري ماذا أقول؟ مستغربا أنني لم أفكر فيما قاله من قبل أبدا!
والحقيقة أنني شأن الكثير من جيلي مررنا بتجربة الشك، في مسألة الديانات، وأذكر محاضرة من أحد أساتذة الجامعة، في سنتي الأولى، أشار إلى أن الغرب لم يخرج من "هرطقات" الكنيسة، إلاّ بعد أن اتجه نحو حرية الرأي. وهمز ولمز إلى أن اختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أبو جهل، كان وراء سورة "تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب ".

ولا أخفي عليكم أن هذه السورة أقلقتنني، بل زادت من شكوكي في ذلك الوقت. وأذكر أنني كنت، في أواخر ستينيات القرن الماضي في سيارة أجرة في القاهرة، وفيما كنت أتأهب لمغادرتها، وصل الشيخ شعراوي، رحمه الله، في تفسيره من خلال راديو السيارة، إلى قوله: "أن سورة تبت يدا أبى لهب معجزة قرآنية!" عندها تمهلت في نزولي من التاكسي، وظللت أسمعه، عندما تساءل: "هل فكرتم ماذا سيحدث

لو أن أبا لهب حضر فتح مكة مثل أبى سفيان، واختار السلامة وشمله أمر الرسول الكريم، بقوله: "اذهبوا فأنتم طلقاء.. ". ههه؟ لو حدث أنه أسلم بعد نزول وتوثيق كتابة هذه الآية، لانهار البناء القرآني؟ الوحي كان، إذن، يعلم أنه سيموت كافرا، فيما يموت أبي سفيان مسلما، وكان الاثنان على درجة واحدة من الكفر". عندها تغيرت لدي العديد من الشكوك والحمد لله.

فهل فكرمن خالجه شك في خلق الله في مثل هذه العبر؟ هل يحتاج إلى وليمة باذخة تختتم بدلاع حتى ينتبه إلى أنه غافل؟ تائه؟ مثلما أحسست أنا، على الرغم من أن الفيزيائي لم يكن يقصدني!

فيما كنت، ذات مرة، رفقة جاري مختار، ننتظر في ساحة المسجد الأذان لصلاة الجمعة، وصل صديق لنا، لم تكن له علاقة بالصلاة إطلاقا، فما كان من مختار -رحمه الله -إلاّ أن قال ساخرا: "دونك صاحبك تائه، لابد أنه دخل هذه الساحة بالغلط!" وصدق جاري لأن صديقي كان بالفعل ضالا! فهداه الله. من ذلك اليوم ولا أدري ماذا حدث له؟، أوصله إيمانه حد التطرف، فاجتنبته!