Atwasat

نكبة النُّصْرة الليبية

نورالدين خليفة النمر الأحد 23 مايو 2021, 09:13 صباحا
نورالدين خليفة النمر

كتب ثلاثة من المتطوعين مذكراتهم التي رصدوا فيها الحُمى الجهادية التي تلبست الشُبان الليبيين لنصرة الفلسطينين في نكبة فقدانهم لفلسطين العام 1948. أولهم محمد حسن عريبي، الذي سرد مغامرته وهو يسير بمواصلات ذلك الزمن من طرابلس بين الساحل والصحراء ليصل إلى فلسطين، ويبدأ كتابه بمقدمة يقر فيها بكثافة عدد الفدائيين الليبيين، ولولا حيلولة محافظ "مرسى مطروح" المصري، بينهم وبين الانضواء في معسكرات التطوع القائمة في البلدة، لكان عددهم يفوق عدد بعض الجيوش العربية، وأن عددا منهم سقطوا شهداء على أرض فلسطين. والكتاب الثاني هو "صور من جهاد الليبيين في حرب فلسطين" للبنغازي سنوسي محمد شلوف، الذي تطوع مع اثنين من أبناء عمومته، في كتائب الشباب سنة 1948 استجابة لنداء جمعية عمر المختار التي فتحت باب التطوع لخوض معارك الجهاد في الكتيبة الليبية التي حملت اسم "كتيبة عمر المختارالأولى". أماالكتاب الثالث فهو مذكرات "رحلة السنوات الطويلة" للحقوقي الطرابلسي، الذي تطوع أيضا بداية الستينيات في حرب تحرير الجزائر، عبدالرحمن الجنزوري، وفي سرده لمغامرته الفلسطينية التي تخللتها خيبة الأمل، يذكر مرورا أن الكتيبة الثالثة التي انتظم فيها وعدد أفرادها كان 240 متطوعا ليبيًا من بينهم متطوعون من الشرق الليبي، صدموا بمنعهم من خوض القتال الحقيقي، بل طلب منهم، بدلا من ذلك، أن يؤدوا مهام البوليس الحربي! والمرارة نفسها عبّر عنها السنوسي شلوف منددا بالانهزامية بل الخيانة التي قبلت بمؤامرة الهدنة، ونتيجتها حدوث "نكبة العام 1948".

وجهة النظرالمؤكدة لحماس شباب المدينتين طرابلس وبنغازي في عدائهم لليهود بعد المذابح التي اقترفتها العصابات الصهيونية إزاء الفلسطينيين وراء ستار الصمت البريطاني، هو انخراطهم اللافت في التطوّع في كتائب الشباب من المغرب العربي والسودان، الذين هرعوا إلى الجهاد في فلسطين سنة 1948. الاختلاف أن يهود بنغازي لم يعُد لهم وجود ملموس، فغادر عدد كبير منهم المدينة خلال الحرب العالمية الثانية بعد استرداد قوات المحور (الألمانية) لها من قبضة قوات الحلفاء (البريطانية) ديسمبر 1940. وأن متطوعي بنغازي ودرنة تأطرّت جهاديتهم في سياق جمعية عمر المختار التي ستنخرط العام 1949 في المطالبة بوحدة ليبيا واستقلالها من القوات الانتدابية. عكس طرابلس التي ظلّ فيها للأقلية اليهودية وجود اجتماعي ملموس ونفوذ اقتصادي عززّته الإدارة البريطانية المنتدبة بإلحاق يهود في سلك الشرطة. وهو ماجعل فرق الأعراس اليهودية ترتجل أغنية يبتديء بيتها بـ: "سلم الدولة اﻻنقليزية.. دارت من اليهود بوليسية". كما سمحت لهم بالتوسع في الأنشطة الدينية والثقافية والسياسية التي تغلغلت فيها الجماعات الصهيونية المحفزة لليهود الليبيين على الهجرة للالتحاق بكيانهم السياسي المزعوم في فلسطين. وهو ما يبدو في مقطع أغنية عرس يحرض اليهودي الطرابلسي على هجر حارته وركوب السفينة إلى فلسطين بقوله: تواتى لوجاك البابور.. يا قعادك في الحارة تدور.

بناء على هذه المعطيات الطرابلسية، ستكون مذكرات عريبي والجنزوري مهمة في إضاءة نصرة الشبان الطرابلسيين للفلسطنيين في نكبتهم الثماني أربعينية من القرن الـ20. والأهمية تبدو في شخصيتي كاتبيها: محمد حسن عريبي، الذي أتمّ دراسته في الأزهر، ليصير معلما في إعدادية غريان النائية عن طرابلس بحسابات المسافة عام 1948. والذي سيفتعل لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، أول ثلة من تلاميذه سيتألق فيهم مستقبلا الإسلامي المعارض للنظام الدكتاتوري الساقط العام 2011 عمرو النامي الجامعي والباحث في التراث المذهبي الإباضي. إلا أن عريبي المؤسس لخلية الإخوان المسلمين الوهمية في غرب ليبيا سينتهي به مسار الزمن ليصير في شيخوخته منسقا للفعاليات الاجتماعية التي اقترحها دكتاتور نظام ليبيا السابق لتأطير المجتمع في آخر فوضويات جماهيريته الغاربة.

أما الجنزوري فيبتدئ مساره شابا منضويا في وطنية حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي المطالب باستقلال ليبيا 1949 ـ 1951، ثم تأخذه مسارات القومية العربية إلى ضفاف راديكالياتها ليتألق محاميا مدافعا عن سجناء الرأي المحسوبين على اليسار الليبي.

عدا كاتبي المذكرات المميزين جُزافا بالتوجه الإسلامي والقومي اليساري، فإن من أدركناهم من المتطوعين الطرابلسيين، الذين لم تُكتب لهم الشهادة على تراب فلسطين، كانوا من عوام الناس، نستثني منهم قلّة من ذوي الفطر الغريرة الذين نجوا من كمائن عصابات اليهود ووشايات الفلسطينين، والبقية البارزة هم من توصفهم الأدبيات الماركسية بالبروليتاريا الرثة بل منهم من كانوا عاطلين عن العمل وقبضيات، أشهرتهم رعوناتهم وعربداتهم في حانات الحارة الطرابلسية القديمة التي كانت جلها يملكها يهود.

التساؤل الذي يطرح نفسه، ما الدافع الذي حرك هؤلاء البسطاء، بل الغوغاء، لينضووا في حراك الجهاد في فلسطين ذي الدلالات الإسلامية؟. الدافع لا علاقة له بالحراك السياسي الوطني عبر أحزابه؛ الذي توخى المطالبة بنهاية العام 1948 بوحدة ليبيا واستقلالها عن بريطانيا المنتدبة وقتها على برقة وطرابلس وأيضا بلاد عربية كفلسطين التي سيتأسس فيها العام 1948 مشروع الدولة الإسرائيلية، إضافة إلى أن التأجيج الحماسي للتطوع لاعلاقة له لا بالإسلام ولا بالجهاد ولا بفلسطين، وهو شخصي مرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الفتية الليبيين الذين ضيعتم مآلات نهاية الحرب العالمية الثانية في دروب الخصاصة والعطالة وفقدان الأمل.

حصافة قادة الأحزاب الوطنية كـ: المؤتمر الوطني الطرابلسي، والكتلة الوطنية والاستقلال الليبي، وفي شرق ليبيا إمارة إدريس السنوسي نأت بهم وبأحزابهم عن الانخراط في هذا التأجيج الجهادي الشعبوي، الذي كانت نتيجته نكبة ضياع فلسطين إلى اليوم، بل وضعوا ليبيا في سكة الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية التي ستصير المملكة الليبية القارة والمزدهرة بعد اكتشاف البترول وتصديره بكميات تجارية العام 1961.

بعد انقلاب صغار ضباط الجيش الليبي على الملكية العام 1969، ستأخذ شعبويات وديماغوجيات القضية الفلسطينة، مسارا ليبيًا عدميا، ضمن مسارات النظام السياسي الفوضوي في إقحام الليبيين في قضية فلسطين وراديكاليات متطرفة في أنحاء متفرّقة من العالم التي هي أكبر من مقدراتهم وطموحاتهم. ما تبقى فقط أوهامهم التي هي اليوم العام 2021 محط استغلال أعضاء مجلس النواب العاطل عن العمل منذ سنوات في طبرق أو جماعات دينية إسلاموية تريد أن تبقى متصدرة المشهد الليبي بعد الثورة الشعبية 2011 عنوة وضدا عن نتائج صناديق الانتخابات البرلمانية والرئاسية السالفة والمحتملة لإنقاذ ليبيا من نفق فوضى المرحلة الانتقالية التي طال أمدها لإعاقة تأسيس معالم دولة وطنية ديمقراطية تردم الهوة الدكتاتورية التي امتدت أربعة عقود من العام 1969 إلى عام إسقاطها بثورة شعبية العام 2011.