Atwasat

من حكايات رمضان.. (شارو وابي)

سالم الكبتي الأربعاء 14 أبريل 2021, 12:18 صباحا
سالم الكبتي

رمضان 1960. الوقت ربيع النوار في كل الضواحي. بنغازي آمنة مطمئنة. الكل يسعى.. يبارك الحياة بالنشاط والحماس. سوقا الجريد والظلام تمتلئان حركة وبيعاً وشراء. الفندق البلدي.. أو سوق الخضار العمومي تضج بتزاحم الأقدام والعربات. المعدنوس والكسبر والسلق والبصل الأخضر.. وغيرها. تصل منذ الفجر في حزم كبيرة من القوارشة واللثامة؛ حيث المزارع البعلية.. والنعناع من قمينس. ليس هناك صوبات. أو سماد كيماوي. الجو غير ملوث والبيئة نظيفة للغاية مثل قلوب أغلب الناس مع وجود الاستثناءات. البشر يختلفون بالطبع وفي الطباع. القعمول والعرايس والأعشاب البرية تطلق رائحتها في سوق الرويسات. وبنغازي آمنة مطمئنة. الناس في أعمالها بين غدو ورواح.. والسهرات في الليل ذات عبق خاص والحياة بسيطة وحدود المدينه قريبة جداً. دروبها متربة.. لكنها نظيفة وهادئة وقطارها أبداً يفوت.. يمضي غرباً وشرقاً وجنوباً في حركة دائبة.. إلى سلوق والأبيار والمرج. يمر بالمحطات المتفرقة في القرى والنواحي. يترجل البعض ويركب آخرون. والدقداق بطبلته يذرع الأزقة قبيل الفجر موقظًا الصوام للسحور.. فيما كان مدفع الإفطار ينطلق من بوابة معسكر البركة في موعده.. مع آذان المغرب. ودون ميكروفونات.. المؤذنون يعتلون المآذن. صوتهم يسمع الجميع.. ولا جديد آخر!

الحركة تمضي بلا توقف. أجواء رمضان الرائعة. والعيشة وادعة رغم الصعاب والتعب ومواجهة الظروف.. والطلبة.. وكل الناس تلك الأيام يسمعون أن فرنسا التي تحتل الجزائر منذ زمن بعيد أجرت تجربتها الذرية في الصحراء الكبرى. جريمة كبرى نفذت تم التعتيم عليها حتى الآن. تأثرت مالي أيضاً المجاورة خلف الصحراء. تركت التجربة صورها المدمرة. الأمراض. التلوث. الموت. الفقد. الخسائر.. والتعتيم مستمر.

كان الناس يعيشون ثورة الجزائر المشتعلة ويتابعون بآذانهم ومشاعرهم من الإذاعات الأخبار والأناشيد وكأنهم في جبال الأوراس مع الثوار هناك أو في حي القصبة. يتحدثون عن بن بلة ورفاقه وجميلة بوحريد وفرحات عباس والحكومة الموقتة.. ويلعنون فرنسا. كانوا يقفون مع الجزائر.. بالمظاهرات والخطب والتنديد بالجرائم والفظائع الحمراء. بالتبرع بالمال والغذاء والكساء في مظهر عفوي ووطني صادق لا يمكن أن تنساه أو تهمله ذاكرة التاريخ. كان المواطنون بسطاء في معيشتهم ومصروفهم اليومي أو الشهري، ورغم ذلك تبرعوا بأعز ما يملكون.، رجالاً ونساء وعلى اختلاف فئاتهم وتنوع مصادرهم.

أقيم مزاد علني لصالح الجزائر وثوارها. أذكر أن عاملاً بسيطاً كان عائداً من عمله في الميناء راكباً دراجته.. نزل حين مروره بذلك المزاد.. تركها وتبرع بها للجزائر ورجع ماشياً إلى بيته في براريك الكيش. النضال والثورة أهم من الدراجة الوحيدة. إنها ستسهم في دعم القتال وتحقيق النصر. دراجة من بنغازي تقاتل دون أن تدري. وكان بعض الطلبة الأيتام من الجزائريين يقيمون في الملجأ الإسلامي بالمدينة، وبعضهم يتلقى تعليمه في مدرسة الصناعة والتجارة والثانوية والجامعة ومدرسة الأبيار الداخلية.. وغيرها. ينالون الاهتمام والرعاية.

في جانب آخر له صلة مباشرة بما يحدث في المدينة. زنجى ضخم الجثة يذرع دروب بنغازي بلا انقطاع في البركة والبلاد والصابري وكل الأماكن. شكله مخيف. ظل الصغار يخشونه ويهربون منه. كان يرتدى لثاماً طويلاً أبيض مثل لثام الطوارق ومعطفاً من مخلفات الجيوش.. يظل يجوب تلك الدروب منذ الصباحات وفي الظهائر على حمار ضخم مثله. لكن لونه أبيض. أذكره تماماً. كان يشحذ ويستجدي الناس صائحاً: شارووابي.. شارووابي. لم تكن العبارة واضحة أو مفهومة. ظلت غائمة لدى الجميع. هل تعني اسمه أو لقبه. هل تلمح إلى طلبه المعونة والاستجداء؟ سرها لم يدركه أحد لكنها في كل الأحوال ارتبطت به وسمي بها وصارت علماً عليه وجزءاً من شخصيته المجهولة التي تخفي وراءها شيئاً ما. كان لا يتكلم العربية ولا يتحدث مع أحد.. كان يشحذ فقط. تعاطف الناس معه كالعادة مع كل غريب أو محتاج. وظلوا ينفحونه من بيوتهم ما يقدرون عليه من ملاليم (كانت الملاليم ذات اعتبار!) أو طعام. كان يختفي آخر النهار ولا يعلمون عنه شيئاً. لا يعرفون أين يقيم.. وإلى أين يمضي أو ينتهي به المطاف. (شارووابي).. همهمة حزينة يقرع صداها الآذان والأماكن وتدب في الجدران والزوايا.. والثورة في الجزائر مشتعلة.. والوقت صيام.. وسكان المدينة لا يتوقفون عن المساعدة.. وحديث السهرات عن الجزائر. الأغاني عن الجزائر.. سهرات الكشاف من أجل الجزائر. مبارايات الأندية للجزائر. زغاريد النساء للجزائر. واللواتي منهن ينجبن.. يطلقن أسماء خيضر وبن بلة وجميلة على أولادهن. الجزائر كانت فى بنغازي في الجامع العتيق. في ميدان البلدية. في سوق الحشيش. في مقار الحكومة. في أعمدة الصحف وأخبارها. في النوادي الرياضية. الجزائر كانت في بنغازي. وفي ليبيا كلها من بحرها إلى صحرائها.

وفي الجانب الآخر أيضاً يستمر شارووابي الأسود فوق حماره الأبيض يشحذ.. ويتواصل تعاطف الناس مع فقره واستجدائه الصدقات.. حتى حماره الضخم نال حظه من العليق والطعام في اللحظة نفسها. ثم تنهض المدينة ذات يوم على خبر صاعق لم تألفه من قبل واعتبر من غرائب الدنيا. في رمضان ذلك العام: قطة تقوم بإرضاع مجموعة من الفئران الصغيرة في شارع إسنيدل. يتسلى الناس بالمشاهدة ويتعجبون. بعضهم يردد بأن القيامة اقتربت. وصاحب القطة يضعها مع الفئران في صفيحة من الحديد. يجعل المشاهدة بمقابل. نصف قرش. ويسمع الشعراء. يهرعون إلى المكان. ويقفون على الواقعة وينظمون شعراً عن الحادثة التي هزت المدينة: السيد بومدين وخديجة الجهمي ومحمد المريمي والفرجاني بن حريز.. شىْ عجيب حدث في رمضان. تقول الشفاة تلك الأيام . لم نره من قبل ولم نسمع به. الدنيا أتت بما فيها!

ثم يأتي خبر آخر يهز المدينة بقوة. اكتشف أمر ذلك الزنجي شارووابي. تبين أنه جاسوس لصالح فرنسا. يراقب أهل بنغازي في نشاطهم وتحركاتهم من أجل الجزائر.. وغير الجزائر. اتضح أنه ينزوي في مكان خالٍ بالماجوري. الحي الذي ما زال لم يعمر بالسكان بعد. كانت المنطقة في الغالب كلها فراغاً. كان يخابر من هناك بواسطة جهاز معه. يقدم تقاريره الشفوية اليومية بلا انقطاع. جهات في الخارج قامت بإرساله إلى بنغازي وكلفته بالعمل لصالحها متخفياً بوظيفة شحاذ! لعب المخابرات وأساليبها. كانت تستكشف الرأي العام وتحلل وتقيم الأمور من خلال الزنجي صاحب الحمار الأبيض.

بعد التعاطف والصدقات والنوايا الحسنة تبين لاحقاً وبالمتابعة أنه واحد من المجندين الأفارقه لصالح فرنسا. كان الخبر صاعقاً أيضاً. قبض عليه ثم اختفى وصار أثراً بعد عين. لم يعد يعلم أهل بنغازي عنه أيما شيء.
شارووابي. شارووابي. شاروا.. ترنيمة حزينة ضاعت في الدروب.