Atwasat

الإنسان وفاعلية الترويض

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 14 مارس 2021, 12:09 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

الترويض عملية حيوية تفطن إليها الإنسان مبكرا ومثلت سندا فاعلا في عملية تطوره وترقيه، ومجمل حياته وحضارته. ونعني بالترويض هنا المعنى الواسع للكلمة، وهو نقل الشيء من الحالة الطبيعية التلقائية الحرة إلى التقييد والتنظيم، بحيث يصبح طيعا ومفيدا للإنسان. إنه تحويل، وحتى تحوير، في طبيعة الأشياء وتطويعها. فابتكار الزراعة ترويض للنبات النامي في البراري بحرية وتحوير في طبيعته من خلال تحسين خصائصه. إنه "استئناس" له. وكذلك ترويض الحيوانات السارحة في الأرض واستئناسها وتدجينها وتهجينها (= تحسين سلالاتها). واللافت للاهتمام أنه، في ما يتعلق باستئناس الحيوانات، بدأ باستناس حيوان شرس وخطير، هو الكلب. فروضه وأخرجه من حالة التوحش والشراسة إلى حالة المسالمة والوفاء والاستفادة من خدماته. وروض حيوانات ضخمة تبدو، للوهلة الأولى، مخيفة، من مثل الجمل والفيل، واستخدمها في مجالات السلم والحرب، واستفاد منها أيما استفادة.

الغريب أيضا أنه روض لطعامه مواد ونباتات غريبة لا تبدو، من الخبرة الأولى، قابلة للترويض والاستخدام المفيد. فالملح إذا تم تناوله مباشرة ذو طعم حاد مزعج، ويصعب ابتلاعه. لكن استخدام الإنسان له بمقادير محسوبة في الطعام يحسن مذاق الطعام بحيث أصبح الإنسان لا يستسيغ طعامه بدونه وتتعكر حياته إذا تعذر الحصول عليه. وقل نفس الشيء على الفلفل الحار والبهارات الحارة والنباتات سيئة الرائحة والطعم مثل البصل والثوم والكراث.

الأغرب من ذلك أنه تمكن من تحويل السم الزعاف الذي تحتوي عليه الأفاعي والثعابين والعقارب إلى أدوية شافية من بعض الأمراض وصار يستخدمها في العقاقير.

ومن جانب آخر، فقد مارس قدرا من الترويض على الطبيعة. فحواجز كسر الأمواج في الموانيء وبعض الأماكن، هي أدوات ترويض لمخاطر هيجان البحر، وإنشاء ما يعرف بمزارع الأسماك يعد ترويضا لهذه الأسماك وحصرا لها في حيز محدود كي يسهل التصرف فيها. وكذلك تعلية ضفاف الأنهار وإقامة السدود لحجز المياه ومنع السيول من مداهمة المناطق المأهولة والحقول المزروعة. ونفس الشيء بالنسبة إلى شق الأنفاق التي تخترق الجبال كي تمر عبرها الحافلات والقطارات...

وإذن فعمليات الترويض، بهذا المعنى الواسع، تشكل قوام حياة الإنسان. وهذا فارق جوهري بينه وبين زملائه في المملكة الحيوانية. فهؤلاء يتكيفوون مع الطبيعة، أما هو فيكيف الطبيعة لمصلحته.