Atwasat

الخلاصة

الهادي بوحمرة الأحد 29 نوفمبر 2020, 11:16 صباحا
الهادي بوحمرة

اجتمع من تم تحديدهم بالاقتراع المباشر، وحاولوا وضع منهاجٍ لكتابة ما تم له الاختيار، تشعبت آراؤهم في البداية، وتعددت مواقفهم، فهم من مناطق مختلفة، ولهم توجهات متباينة، ويُقيِّمُون ماضي وحاضر البلاد، وينظرون لمستقبلها من زوايا متعددة. فكان الحل بتجاوز من هم في الواجهة ويمسكون بظاهر الأمور وباطنها، والرجوع إلى من يملكون وضع الخاتمة، فهم مختارون من القاعدة، ولا حل إلا بالنزول لأفراد هذه القاعدة في قراهم ومدنهم، والسماع منهم، وفتح الأبواب لاستقبال أفكارهم. 

بعد وقت وجهد، عادت فرق التواصل إلى مقرها، وقدم كل فريق خلاصة ما دونه من آراء، وما وصل إليه من تصورات، جلسوا بعدها لمحاولة الكتابة، إلا أن الطريق كان شاقًّا، فالاختلافات معقدة، والاتجاهات متباعدة، فتوالت الجلسات، وتشعبت النقاشات، وتناقضت المقترحات، وتعددت خطط الوصول، وتعاقبت لجان العمل، وتفرقت بها السبل، منهم من ينادي بالعودة إلى الماضي، ومنهم من يدفع إلى القطع معهم، منهم من يقول بالاكتفاء بالكليات، ومنهم من يصر على من يحسبها غيره من الجزئيات. وبعد أخذ ورد، وتقدم وتراجع، انتهى الأمر إلى ضرورة البحث عن الوسط، والبناء عليه، فلا تطرف، لا في جهة اليمين، ولا في جهة اليسار، ولا قبول لرأي فريق برمته، ولا إهمال له بكليته، فالمقترحات يمكن أن تتجزأ، والتصورات يمكن أن تكون لها بدائل، والغايات يمكن أن تتبادل، وتتعدد من أجل إدراكها الوسائل. فما سوف يكتب هو لليبيين جميعًا، ولا يمكن أن يُقر مشروع هذا الكتاب، ويُعتمد ككتاب للبلاد؛ إلا بحصوله على موافقة أغلبية مرتفعة ممن سيخضعون لأحكامه، فكل منهم له الحق في قول نعم أو لا، وليس له إلا صوت واحد كغيره، لا فرق بين من هم في الجنوب، ومن هم في الشمال، ولا بين من هم من مدن شرق البلاد أو غربها.

تم البناء على المشترك، فتم الاكتفاء بوصف الليبية، وأُلحق باسم الدولة، وباللغات المتعددة فيها، مع إقرار وجوب حمايتها، وإدماجها في الحياة العامة، والعمل على تنميتها، وحق تعلمها وتعليمها، والنص على اللغة التي يتكلمها الجميع لغة للدولة، إلا أن ذلك ما كان ليرضي من يرفض الانتساب لدولة لا تسمى بالعربية، ويعترض على دسترة لأي لغة غير العربية، وجمعته صفحة العداء لما كُتب مع مخالفه الذي يرفض القبول بنص لا يضع لغته على قدم المساواة مع العربية، ويدفع باتجاه مسح صور التفاضل بين أي لغة ليبية وأخرى، ولو كانت هذه اللغة لغة يتكلمها جميع أهل البلاد. 

وفي صفحته الثانية، تجاهل الكتاب الأحداث السياسية؛ لما كان فيها من خلاف وشقاق وقتال، وترفع عن إطلاق أي أوصاف عليها، فالهدف هو جمع الناس على كلمة سواء، وليس في أي منها كلمة سواء. وعلى مشروع الكتاب الذي يتخذ من التوحيد بعد الفرقة مقصدًا له، أن لا ينال من جماعة لمصلحة جماعة، ولا يمدح فئة على حساب فئة، وأن يشعر الجميع بأنهم رابحون، دون أن يكون هناك فائز أو خاسر. فخرج من يقول إن هذا الكتاب هو نتاج لفبراير، ولا يمكن أن يكون إلا له، ويجب أن يُسمى باسمه، وعليه أن يمجد ويعلو من شأن المنتسبين إليه، ويحط من قدر من يصنفون بأنهم خصوم، ومن غير المقبول تجاهل ما حدث من نصر ومن هزيمة. وقابل هذا الفريق فريق آخر يقول إن هذا الكتاب؛ سواء صرح أو أضمر؛ هو كتاب لحدث معين، ولا يمكن الاعتراف به، لأن الإقرار به هو إذعانٌ وخضوعٌ لما آلت إليه الأمور، وأن لا حل إلا بالعودة لما كان، ولا مفر من العمل على إسقاطه، فكانت النتيجة أن تضامن فرقاء الأمس ضد كتاب حاول التوسط بينهما، وأصبح هو عدوهما المشترك، مع أن كل منهما يسعى لغاية تناقض الآخر. 

أما الصفحة الثالثة من مشروع الكتاب، فقد نصت على أن البلاد دولة واحدة، فيها مشرعٌ واحدٌ، فلا تعددية قانونية، وعليها رأسٌ واحدٌ، لا عدة رؤوس، وبها محكمةٌ عليا واحدة، لا اتحادية، فمن يصدر التشريع يتألف وجوبًا من أعضاء موزعين على مناطقه كافة. لعدد السكان نصيب، وللجغرافيا نصيب. في وجهه الأول الأولوية للسكان، وفي وجهه الثاني الأولوية لمسمى الأقاليم. للمدن الكبرى المقاعد التي تناسبها، دون أن يحجب نصيبها نصيب الصغرى، والتي لها ضمان التمثيل، وإمكانية التكتل؛ للحفاظ على مصالحها، على نحو يتوازن مع الكبرى. إلا أن ذلك ما كان لينال موافقة من يتمترس وراء جدار المواطنة، ويتمسك بدفع أن لكل مواطن صوتًا، وأن لا معيار بناء غير هذا المعيار، وأنه لا مجال للحديث عن الأقاليم عند تأطير أي السلطة، فهي من التاريخ، ولا حل يمكن أن يقبل غير حل عدد السكان، ومن الفروض أن يكون لكل عدد متساوٍ منهم مقعد، سواء كانوا في الشرق، أو في الغرب، أو في الجنوب. تراص معهم في مواجهة المشروع من هو على النقيض منهم، ويقول بأن البلاد مثلثٌ متساوي الأضلاع والزوايا، ولا يمكن القبول بكتابٍ حاكمٍ لا يقوم كما تقوم البلاد على ثلاثة أضلاع، ولا يقرر أن لكل ضلع ثلثًا منها، لا يزيد ولا ينقص، أيًّا كان عدد سكانه.

أما في صفحة مركز البلاد، فقد جمع مشروع الكتاب مختلف الآراء في عدة نصوص، تعددت فيها المراكز، فشرق البلاد هو مستقر من يملك سن القانون الذي يسري على كل البلاد وكافة العباد، وموطن من ينفذه في غربها، ومن له الحكم بإبطاله في جنوبها، فلا يملك أي منها الحكم دون الآخر. ومع ذلك فقد ظهر من يقول إن ذلك عبث وهراء، ذلك لأن صاحب هذا القول يقطع بأن السلطات لا يمكن لها الخروج مما سماها بالعاصمة الأبدية، ووصف قوله بغير القابل للنقاش، واشترك معه في كيل التهم للمشروع فريق آخر يقول بأن العاصمة كانت من نصيب الغرب لعشرات السنين، وقد آن الأوان أن تنتقل بكامل السلطات إلى شرق البلاد، أو أن يكون للبلاد عاصمتان، فيهما معًا التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ رغم بعد أحدهما عن الأخرى بمئات الأميال، وأن عليها التنقل بينهما، ولا يهم ما يمكن أن يترتب على ذلك من تكاليف وأضرارٍ وإنهاك، فالمهم هو رمزية المساواة بين الشرق والغرب، ولا قبول لأي مساواة تقوم على التجزئة، فالأمر غير قابل للتجزئة. وحتى مع القول بالقابلية للقسمة، فلن تكون قسمة عادلة. 

ولأن مطلب الناس بشأن اختيار الرئيس اختيارًا مباشرًا كان جليًّا واضحًا في كل اللقاءات، ولأن المعارضة لذلك كانت مبنية على الخوف من الكثافة السكانية في الغرب، فهو الأكثر عددًا، فقد كان من الواجب البحث عن موازنة بين المؤيد والمعارض، وجد واضعو مشروع الكتاب -بعد طول نقاش- ما يمكن وصفه بالحل الوسط في بعض تجارب وازنت بين اتساع المساحة واختلال توزيع السكان، فكان النص على انتخاب الرئيس بأغلبية موزعة بين الشرق والغرب والجنوب، وعلى من يسعى لأن يكون رئيسًا، أن يكون له نصيب من القبول في كافة دوائر البلاد؛ وفق النسب المحددة لها، إذ لا تكفيه أغلبية يجمعها من منطقة من مناطقها؛ مهما كانت كثافتها. ومع ما في هذا الحل من توازن، وجمع بين رأيين مختلفين، كان يبدو صعبًا الجمع بينهما، إلا أن هناك من خرج ووصف الحل بالبدعة، وأنه ضلالة، فالأغلبية هي الأغلبية، وأن أي زيادة عليها هو تشوية لها، ولا يمكن البناء على مثل هذا التحريف، وذهب آخرون مناقضون لما قاله السابقون إلى أن ذلك لا يكفي، وأن اشتراط توزيع الأغلبية ما هو إلا نوع من الخداع، فميزان الكثافة السكانية لم يتغير كثيرًا، وأن الحل يكمن في أن يكون لكل إقليم رئيس، وأن الأمور لا تستقيم إلا بثلاثة رؤوس، وهم من يختارون من بينهم الرئيس. وبغير هذا لن تكون أضلاع البلاد متساوية.

وفي صفحة دين الدولة ومصدر تشريعاتها، كان في البلاد من يقول أن لا دستور إلا القرآن والسنة، وأن لا يمكن الانفصال عن المدارس الفقهية، وما على المشرع إلا الاتباع، وفي مقابله هناك من يقول أن لا استقرار، ولا ازدهار، ولا تطلع إلى الأمام إلا بالوقوف عند المعايير الدولية للحريات والحقوق كاملة دون نقصان، وأنه لا يمكن قبول أي تحفظٍ عليها. فما كان من مشروع الكتاب إلا أن نص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة مصدر القوانين، في مقابل النص على بابٍ مفصلٍ للحقوق والحريات ودسترة المواثيق الدولية، بحيث يقيد النص بالنص، ويفسر النص بالنص، وينتهي الأمر بالوقوف عند الثابت والقطعي من الشريعة، وباستبعاد الرأي والاجتهاد الفقهي المخالف لما هو قطعي؛ وفق نص الوثيقة. فما كان ممن ينطلق من الترادف بين الفقه والشريعة، إلا أن وصف مشروع الكتاب بالليبرالي والعلماني والمنحرف، ورفض الاحتكام لغير الشريعة، وتمسك بأحكامها كافة؛ أيًّا كان موضوعها ومكان وزمان استنباطها، ودعمه في رفض المشروع غريمه الفكري، الذي يرى أنه لا يمكن النص على الشريعة الإسلامية؛ لأنها تعطل المواثيق الدولية، وأن الشرعة الدولية؛ بما فيها اتفاقية سيداو؛ لا تقبل التجزئة، ولا تخضع لما يمكن أن يسميه الأصوليون وأشباههم بالخصوصية، ويجب أن ينص الكتاب الذي سوف يحكم البلاد عليها دون أي تحفظات أو استثناءات. وأن هذا المشروع الذي يجعل للدولة دينًا وهي لا تصلي، ولا تزكي، ولا تصوم هو مشروع كارثي يؤسس لدولة ثيوقراطية، ولهذا يجب منعه من أن يكون وثيقة تحكم البلاد. 

وبهذا جمعت المعارضة لهذا المشروع اتجاهاتٍ متناقضة، والتي توحدت موقتًا من أجل منع الاحتكام إلى الشعب، لأن كل طيفٍ من أطيافها يخشى قبول الناس له، وتحوله إلى مسطرة تحكم التدافع بينهم. فتعاونوا على بناء خطابٍ سياسيٍ وإعلاميٍ فيه الكثير من الفجور في الخصومة، بما فيها من نسجٍ للاتهامات، وإسنادٍ لأقبح الصفات، واستخراجٍ لعديد من التفسيرات التي تذهب بنصوصه إلى أسوأ الاحتمالات، على أمل منع الوصول به إلى نقطة النهاية، مع اعتقاد كل منهم إمكان فرض رؤيته لاحقًا على البلاد والعباد، دون أن يغيب على أي من الفرقاء مخاطر الدخول في منعطفات قد تعود بالحال بينهم إلى أشد مما كانت عليه. فبمجرد أن يُقبر المشروع، سيدفع كل منهم بما يراه من صراط مستقيم، والذي لا يستقيم مع ما يراه غيره من بديل. وربما سيظهر منهم يومًا من يقول هل إلى مردٍّ من سبيل؟